لعلّه من المفيد إقليميًا، أن يدور النقاش السياسيّ اليوم، حول كيفيّة لجم المشاريع المتصارعة في المنطقة وعليها، ليتشكّل المشروع الخاص بالمنطقة وشعوبها، على نحوٍ يدفع بالقوى الفاعلة للانخراط في تحديد ديناميكيّات الأمن الإقليميّ، قطعًا للطريق على المتصارعين، عبر فرض الرؤى العربيّة كما يراها أصحابها، لرسم شكل اليوم، ووصف الغد فيما يُدعى بـ "الشرق الأوسط الجديد" أو المتجدّد، الأمر في كلتا الحالتين سيّان طالما كان بيدي لا بيد عمرو.

قد ينظر البعض للأمر، بوصفه أضغاث أحلام، ولكنّ المراقب المنتبه لما يدور في الحقل الجيوسياسيّ في كامل المنطقة والعالم من حولنا، يمكنه أن يقرأ ملامح فرصة سانحة وفاعلة باتت على الطاولة، تنتظر من يلتقطها، ليس فقط لإنقاذ فلسطين ولبنان وسوريا، ولكن للحيلولة دون إخضاع كامل الإقليم لما يُراد أن تكون عليه، وفق رؤى ومخطّطات ومشاريع الآخرين.

نعم، قد يعتقد البعض أنّ النار لن تصل إليه، أو تمسّه، على اعتبار أنّه حليف لزعيمة "العالم الحرّ" أميركا، ولكنّ الأخيرة وببساطة شديدة، لا ترى إلا حليفًا حقيقيًّا وموثوقًا واحدًا في المنطقة، هو الحليف الإسرائيليّ، القادر على حماية مصالحها أمنيًّا واقتصاديًّا، وهو ما سمح لنتنياهو بالقول يوم قصف ميناء الحديدة: "هذه النيران نشعلها لتراها المنطقة بأكملها" والتهديد والوعيد هنا بخلاف الوقاحة واضحان، ذلك ليس تقليلًا من شأن دول المنطقة ووزنها في المعادلة الدوليّة، ولكنها القراءة الصريحة، التي يجب ألا نغضّ الطرف عنها لأسباب عديدة، ليس أقلّها أن تسكن البيت الأبيض شخصيّة كما شخصيّة ترامب الذي تعامل مع الإقليم ودوله في فترة ولايته الأولى بمنطق الصفقات ومعيارها الوحيد، لغة الربح والخسارة.

غير أنّ الأمر ليس أمر مواجهة لا مع أميركا، ولا حتى مع مندوبتها المقيمة في المنطقة إسرائيل، قدر ما هو أمر ترتيب بيتنا العربي بأيادٍ عربيّة تعي ما الذي ينفع شعوبها، ويخدم تطلعاتها على أسس تمثّل مصالحها الوطنيّة وأولويّاتها الإقليميّة، باتجاه تفضيل الرّخاء والتقدم والمساواة والسّلام، على منطق إدارة النزاعات والاندفاع بها للتهوّر المغموس بالدّم النازف في كلّ بقاع المنطقة، والمرشّح لأن يكون عنوانها الأبرز لسنوات قادمة.

والفرصة السانحة تكمن، في اتّباع سياسة "الاحتواء"، عوضًا عن سياسات إدارة النزاعات؛ وهي بالأساس سياسة أميركيّة، استُخدمت في المنطقة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي على نحو لا يخدم إلا مصالحها، تقويضًا للخصم الروسيّ حينذاك، وفرضًا للهيمنة والسيطرة على كامل المنطقة ومقدّراتها إلى ما شاء الله؛ إلّا أنّ استخدام هذه السياسات من قبل المجموعة العربيّة، يختلف من حيث المبدأ والجوهر، فهو في الحالة العربيّة، استخدام إيجابي، ليس لأن المنطقة وزعماءها يسعون لفرض السيطرة أو الهيمنة على هذا الطرف الإقليمي أو ذاك، ولكن لصدّ الطموحات التوسعيّة للمشاريع المتصارعة.

والأطراف المراد احتواؤها، هي تلك الأطراف المتّهمة بدفع المنطقة إلى أتون الحروب المتتالية والمتدحرجة تحت شعار التحرير، علمًا بأنّه شعار حقّ معلوم، وحقوق ما تزال مغتصبة، وإن استُخدمت أو وُظّفت في باطل المشاريع التي لم ولن تقدّم ما يحرّر الإنسان قبل التفكير في تحرير المكان؛ وإنما قيّدت وعي الأول، وساومت على الثاني؛ لذا جدير بقوى الإقليم، أن تتحرك حمايةً لنفسها وشعوبها من كلّ تهديد قائم أو محتمل، وانتصارًا لحقّها في رسم ملامح حاضرها ومستقبلها، وكذا هو انتصار للحقّ الفلسطينيّ، حجر النرد على كل الطاولات المتنازعة والمستغلة.

وهنا، علينا الانتباه إلى أنّ في الإقليم دولًا مركزيّة لها حضورها الوازن على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ، بعضها بمكانته التاريخيّة والحضاريّة الفاعلة في المنطقة سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، كما العربيّة السعوديّة ومصر وتركيا، والأولى صاحبة مبادرة التحالف الدوليّ لإقامة الدولة الفلسطينيّة في الراهن المشتعل، وصاحبة المبادرة العربيّة المقتولة من قبل الطرف الإسرائيليّ منذ العام 2002، غير أنّ تاريخ علاقتها مع لبنان يعلمه اللبنانيّ قبل غيره؛ والثانية وأعني مصر، فهي رمانة الميزان في المنطقة على الصعيدين العسكريّ والسياسيّ، صاحبة الدور التاريخيّ في كافّة قضايا المنطقة بشكل عام، وفي القضيّة الفلسطينيّة بشكل خاص، وهي التي تعدّها/ إحدى أهمّ قضايا الأمن القوميّ المصريّ التي لا تفريط فيها ولا مساومة؛ والثالثة، وهي الدولة التركيّة الطامحة للحضور الفاعل في الشرق، بما تلعبه من دور مهمّ على صعيد أمن الطاقة والتجارة الإقليميين، ويؤهلها تاريخها لأن تكون دولة محوريّة ومؤثرة، في ظلّ سعي إيران الدائم للتمدّد بالاتكاء على قواعد تاريخيّة مرتبطة بالموروث الفارسيّ؛ بالإضافة إلى إدراكنا لحاجة الدولة التركيّة لهذا الدور في سياق محاولات الغرب الأطلسي التقليل من شأنها، على الرغم من مكانتها ودورها المحوريّين في حلف الناتو.

وفي الإقليم أيضًا دول أخرى لها وزنها الفاعل بطرق وأدوات مغايرة، تمكّنت من بناء تحالفات ساهمت وما تزال في تغيير شكل الحوكمة العالميّة، باعتبارها من الدول "المحيطة" بالمنطوق السياسيّ القادر على إدارة شبكة علاقات دوليّة، تتجنّب تباينات الآخرين، وتُخضع علاقاتها لتقاطع المصالح المشتركة، تحديدًا مع القوى الكبرى في الإقليم وخارجه، كما هي الدولة القطريّة، والدولة الإماراتيّة، خاصة وأن للأولى علاقات جيّدة مع الحركات الدينيّة، وحماس إحداها؛ والثانية وأعني الإمارات بما يربطها من علاقات مهمة مع عديد الأطراف في الإقليم وخارجه.

إنّ الدّفع بمشروع عربيّ نهضويّ فاعل يقوم على مبدأ العلاقات المتوازية والمتوازنة مع كافّة أطراف الإقليم، بما فيها إسرائيل وإيران، من شأنه أن يخدم المنطقة على صعيدين أساسيّين، الأوّل، نزع فتيل الأزمات السياسيّة، وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة، وبالتالي ملء الفراغات التي تعمل عليها المشاريع النقيضة، الإسرائيليّ والإيرانيّ؛ أما الثاني، فيمكنه أن يؤسّس لحضور عربيّ فاعل ومؤثّر في الحضارة الإنسانيّة، باعتبار المنطقة وشعوبها، قادرة على استعادة مكانتها الحضاريّة المؤسّسة لعديد العلوم التي اتّكأ عليها الغرب في تقدّمه وتشكيل معارفه، فهل سننتهز هذه الفرصة التي عكستها وتعكسها حاجة عديد القوى الدوليّة إلى الدفع بتعدديّة القطبيّة عوضًا عن أحاديّتها؟ وكذا تحوّلات المزاج الشعبيّ في أوروبا بشكل عام، وفي أميركا على وجه التخصيص، انتصارًا للحقوق العربيّة بناءً على معادلة "نحن وهم" عوضًا عن ثقافة "إما نحن أو هم"؟ أسئلة أعتقد أنّ إجاباتها ستحدّد شكل ومستقبل المنطقة لعقود قادمة؛ فهل نفعلها ونخلق من الأزمة فرصة؟