كعادته نجح نتنياهو مرّة أخرى بإفشال صفقة تبادل الأسرى وتبديد أجواء التفاؤل الّتي كانت تنبئ باقتراب نضوجها وخروجها إلى حيّز التنفيذ، وذلك رغم المرونة الّتي أبدتها حركة حماس فيما وصف بأنّه تنازل من طرفها عن قضيّة إنهاء الحرب والانسحاب الشامل من غزّة عبر تأجيلها إلى المرحلة الأخيرة، فقد خرج نتنياهو عندما شعر بأنّ الكرسيّ يهتزّ من تحته، "مذعورًا"، كعادته لوسائل الإعلام ليضع العقدة في المنشار من خلال التأكيد أنّه لن ينهي الحرب، ولن يسحب جيشه من غزّة.

يدرك نتنياهو أنّ بقاء حكمه مرتبط باستمرار الحرب الّتي تنتظره في نهايتها لجنة تحقيق رسميّة ومحاكم في ملفّات فساد وانتخابات جديدة، كفيلة كلّ واحدة منها الإطاحة به وحتّى إدخاله إلى السجن لبضع سنوات، لذلك فهو يتمسّك بحبل النجاة ذاك تمسّكه بسموتريتش وبن غفير اللّذين يستند إليهما لصيانة ائتلافه الحكوميّ.

هذه الحقيقة باتت تحظى بمحلّ إجماع إسرائيليّ، حيث يؤيّد 71% من الجمهور الإسرائيليّ وقف الحرب على غزّة مقابل استعادة "المخطوفين"، ويتشاركها أيضًا أهالي الأسرى ووسائل الإعلام والمؤسّسات الأمنيّة من "جيش" و"موساد" و"شاباك"، الّذين يديرون المفاوضات باسم حكومته في القاهرة والدوحة، ويعلنها مسؤولوهم تلميحًا وتصريحًا رغم خضوعهم لسلطته الّتي تجعل من الممنوع عليهم الخروج بتصريحات منافية أو مغايرة لتصريحاته.

بهذا المعنى، فإنّ نتنياهو بات يوظّف الحرب على غزّة في خدمة صيانة ائتلافه الحكوميّ، وليس في خدمة المصلحة العليا لمواطني لدولة الّتي يقودها، أي أنّ "الجيش الإسرائيليّ بعد أكثر من سنة من الحرب في قطاع غزّة بات لا يخدم أهدافًا سياسيّة وأمنيّة لدولة إسرائيل، بل أهدافًا سياسيّة داخليّة تخصّ رئيس الحكومة"، على حدّ تعبير الجنرال احتياط نمرود شيفر الّذي يقول في مقال نشر في منصّة "تيلم"، أنّ الجيش الإسرائيليّ أنهى منذ أشهر طويلة العمليّة العسكريّة الناجعة في قطاع غزّة، والّتي بدأت بغارات قام بها سلاح الجوّ، وتواصلت بالمناورة البرّيّة.

شيفر الّذي شغل سابقًا منصب مدير عامّ الصناعات الجوّيّة، إضافة إلى عدّة مناصب هامّة في سلاح الجوّ الإسرائيليّ، يستشهد بوزير الأمن السابق يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، لتأكيد أنّ حماس لم تعد تشكّل تهديدًا عسكريًّا على إسرائيل، ويستنتج بناء على ذلك، "أنّ استمرار الحرب ضدّ عدوّ غير موجود كقوّة عسكريّة إنّما يخدم أهدافًا هي ليست عسكريّة أو أمنيّة".

ويضيف أنّ الحرب باتت وسيلة بيد الحكومة الّتي لا تحظى بشعبيّة جماهيريّة، وتخشى إجراء انتخابات حرّة، للحفاظ على سلطتها، ووسيلة للحفاظ على وحدة الائتلاف وخاصّة أطرافه المتطرّفة وتأخير محاكمة نتنياهو، وذلك بموازاة تحقيق هدفين غير رسميّين يجري ترديدهما في تصريحات زعماء الائتلاف وهما بناء مستوطنات في غزّة وإقامة حكم عسكريّ هناك.

ويعزو شيفر هذا الخضوع غير المسبوق للجيش لإملاءات القيادة السياسيّة إلى ضعف القيادة العسكريّة الحاليّة وإحساسها بالذنب على ما حدث في السابع من أكتوبر، ويتساءل بنوع من التحذير فيما إذا كان الجيش أيضًا قد "سقط" أيضًا، مثلما حدث مع الشرطة الّتي استقامت مع سياسة بن غفير، وتحوّل من أداة رسميّة وظيفتها الحفاظ على الأمن القوميّ إلى أداة سياسيّة بأيدي الحكومة.

في هذا السياق يؤشّر شيفر إلى سقوط ربّما أهمّ بقرة مقدّسة في الثقافة الصهيونيّة الإسرائيليّة، وهي الجيش الّذي أسماه بن غوريون "بوتقة الصهر" و"جيش شعب"، الّذي يوحّد كافّة أطياف التجمّع الاستيطانيّ الصهيونيّ، ويصهرهم في بوتقته ليخلق منهم كيانًا مشتركًا، وهو يخضع في الوقت ذاته لمبادئ الدولة الحديثة القائمة على الديمقراطيّة الليبراليّة الّتي تعتمد الانتخابات وتداول الحكم، والفصل بين السلطات وخضوع المستوى العسكريّ كذراع تنفيذيّ وظيفته حماية حدود الدولة وأمن سكّانها للمستوى السياسيّ، وليس إخضاعه وتحويله لأداة سياسيّة بأيدي "طغمة" حاكمة.

ويتساءل المقال فيما إذا كان بن غفير ينجح أيضًا في فرض سياسته على الجيش من قبل نتنياهو الّذي يستقيم مع مواقفه، مشيرًا إلى تعزّز هذا التوجّه في أعقاب استبدال وزير الأمن غالانت، الّذي كان يحافظ على استقلاليّة معيّنة أمام نتنياهو واليمين المتطرّف، يسرائيل كاتس الّذي لا يحظى بمؤهّلات ومعرفة بمجال الأمن، لكنّه يتوافق مع نتنياهو في المصالح السياسيّة.