حاول كارل ماركس في مقالته الشهيرة الثامن عشر من برومير – لويس نابليون (The Eighteenth Brumaire of Louis Napoleon)، تفسير تمكّن الرجّل الذي اعتبره جوهر «الرداءة الفظيعة» من الوصول إلى السلطة وليصبح ديكتاتور فرنسا. وسرعان ما استنتج أن نابليون لم يكن مهمًا على الإطلاق، وأن البنية الاجتماعية التي كان يتصرف في إطارها كانت أكثر أهمية بكثير. وقد تجسد هذا الكشف في واحدة من أقواله الأكثر شهرة: «يصنع النّاس تاريخهم بأيديهم، ولك ليس بأهوائهم، وليسِ في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمةٍ بالفعل، ومُعطاةٍ ومنقولة من الماضي».ليس بنيامين نتنياهو بأي حال من الأحوال رديئًا رداءة فظيعة، بل هو في رجلٌ ديماغوجي موهوب، وسياسي ماهر، وأيديولوجي نيوليبرالي حتى النخاع. بيد أن التشابه بين «بيبي»، كما يحب معجبوه مناداته، ولويس نابليون في كتاب ماركس، مفيدٌ من نواح أخرى، نواحٍ تتجاوز مُجرد ملاحظة أن كليهما كان يتخذ خيارات، ولكن ليس من اختياره الخاص. في فهم ماركس، فإن ما مكن من صعود الديكتاتورية في فرنسا كان الصراع الطبقي الذي قاد إلى طريق مسدود سياسيًا. وبناءً على هذا الوضع، اغتصب لويس نابليون سلطات الدولة لتنفيذ سياسة عدوانية في الخارج، بينما كان يسعى إلى تنفيذ أجندة صارمة مؤيدة للأعمال التجارية في الداخل. وقد أدّى هذا إلى نشوء وضع متناقض حيث سعى بونابرت الثاني إلى تطبيق سياسات تتماشى مع سياسات البرجوازية الفرنسية، في حين خنق حريتهم السياسية والثقافية في التعبير. وهذا هو جوهر المفارقة التي تعيشها إسرائيل تحت قيادة نتنياهو[1].
والطريقة لحل هذه المفارقة هي متابعة تاريخ الصراع الطبقي في إسرائيل. لقد بدأ الأمر بجدية في عام 1977، مع الانتخابات «الانقلابية» التي أنهت الحكم الطويل لحزب العمل الإسرائيلي، الذي حكم البلاد منذ عام 1948. وصل حزب الليكود، الذي يمثل إلى حد كبير الفقراء، في ذلك العام إلى السلطة. فتح هذا الحدث فصلًا جديدًا في تاريخ إسرائيل، وأدى إلى بدء حرب باردة استمرت عقودًا من الزمن، وتصاعدت في بعض الأحيان إلى عنف صريح، بين تحالفين اجتماعيين. وتضمن التحالف الأولى، بقيادة حزب الليكود، الطبقة العاملة، والمستوطنين في الأراضي المحتلة، واليهود المتشددين دينيًا. وكان التحالف الآخر بقيادة حزب العمل الإسرائيلي. وعلى نحو يعكس التحول الذي حدث في أحزاب يسارية أخرى في العالم المتقدم، تخلى حزب العمل الإسرائيلي عن الطبقة العاملة الإسرائيلية. واستوعب تدريجيًا وعلى نحوٍ متزايد احتياجات الطبقة المتوسطة والبرجوازية، وأصبح، على حد تعبير توماس بيكيتي (Thomas Piketty)، نوعًا من «اليسار البراهمي»[2].
قبل عامين من وصول مارغريت تاتشر إلى السلطة في المملكة المتحدة، وقبل ثلاثة أعوام من دخول رونالد ريجان إلى البيت الأبيض، عمل حزب الليكود على تعميق هذه الخطوط الفاصلة والمزلزلة من خلال إطلاق الثورة النيوليبرالية في إسرائيل، وبالتالي ترسيخ مكانة البلاد بوصفها مشاركة مبكرة في الموجة العالمية. إلا أن تبني العقيدة النيوليبرالية بالنسبة لحزب الليكود الإسرائيلي كان يهدف في المقام الأول إلى اكتساب السلطة المؤسسية. كان زعماء الليكود، على سبيل المثال، يعرفون الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان (Milton Friedman)[3] ودعوه إلى إسرائيل في عام 1977 للمساعدة في الترويج للنيوليبرالية للجمهور الإسرائيلي. لكنهم تجاهلوا النصيحة التي قدمها لهم خلال إقامته القصيرة. وفي عملية من التجربة والخطأ، تبنت قيادة الليكود المبادئ النيوليبرالية للحكم؛ لأنها قدمت نموذجًا جاهزًا للاستيلاء على المؤسسات التي أنشأها حزب العمل الإسرائيلي، وسيطر عليها حتى عام 1977 أو لتحطيمها. لقد كانت ثورة موجهة بالممارسات البيروقراطيةوالسياسية،ة وليس بخريطة طريق أيديولوجية[4] .
كانت إسرائيل، عندما بدأت تلك الثورة، تتمتع بأعلى درجات المساواة الاجتماعية في العالم. وأصبحت اليوم واحدة من أكثر البلدان التي تعاني من انعدام المساواة، حيث تكاد الفوارق في الدخل تساوي تلك الموجودة في الولايات المتحدة، أكبر راعٍ لها.[5] أشرف حزب الليكود على هذه تنفيذ هذه السيرورة، رغم ادّعائهِ طوال الوقت بأنه يمثالمحرومين،ين ويحصل على أصواتهم باستمرار. احتجت البرجوازية المؤيدة لحزب العمل بشدّة على حكم الليكود، حتى في الوقت الذي استفادت فيه من الإصلاحات النيوليبرالية التي نفذها. وفي واقع الأمر، وخلال الفترات القصيرة التي تولى فيها حزب العمل السلطة، طبّق المبادئ النيوليبرالية بقوة أكبر من الليكود. وفي حين عرض الليكود على الأقل دفعات أساسية تعوِّض إلى حد ما عن الحرمان الذي عانى منه، طَالبَ اليسار الإسرائيلي بإلغاء آليات التعويض هذه. هذا هو الهيكل الذي دخل إليه نتنياهو في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وهكذا كانت قواعد اللعبة التي تعلّم اللعب بها إلى حد الكمال.
لم تنشأ الصراعات الداخلية التي شهدتها إسرائيل من فراغ. وكثيرًا ما تعرضت إسرائيل لضغوط دولية، وكان بعض هذه الضغوط يتعلق بموقعها الجيوسياسي الحيوي لنقل النفط والغاز من الخليج الفارسي إلى سوق الطاقة الأوروبية. ومن ثم، كان لإسرائيل دائمًا دور رئيس في تأمين المنطقة، وقد كافأتها حليفتها الولايات المتحدة بسخاء. وبدورها، أصبحت إسرائيل تعتمدُ اعتمادًا كبيرًا على هذا السخاء، ونتيجة لذلك أصبحت عرضة للضغوط الخارجية. حددت المخططات الأميركية في الشرق الأوسط المعايير ليس فقط للسياسة الخارجية الإسرائيلية، بل لسياساتها الداخلية أيضًا. كما وسعى المسؤولون الأميركيون في كل خطوة على الطريق إلى تصدير أساليب الحكم النيوليبرالي التي اخترعت لأول مرة في الولايات المتحدة.
يُشكّل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية الموضوع الرئيس في هذه القصة، وذلك لوجودِ علاقة تكافلية بين النيوليبرالية والاستعمار. كانت النيوليبرالية الإسرائيلية قاسية ووحشية للغاية؛ لأنها استطاعت استخدام الأراضي المصادرة على نحوٍ غير قانوني في الضفة الغربية بوصفها صمّام أمان اجتماعي. وبدوره، ساهمت النيوليبرالية الإسرائيلية في تشكيل معالم الاستعمار الإسرائيلي في الضفة الغربية. وكثيرًا ما تسببت الصراعات مع الفلسطينيين في حدوث صدمات اقتصادية. وقد استغل النيوليبراليون الإسرائيليون هذه الظروف، حيث تبنوا «مبدأ الصدمة» لإجراء تخفيضات أعمق في الميزانية وخصخصة أجزاء أكبر من الاقتصاد. رغم أن مشروع المستوطنات كان في بداياته، إلا أنه بدا منفصلًا عن الواقع الديمقراطي (نسبيًا) في إسرائيل. وعلى نحو متزايد، أصبحت أساليب الحكم التي أدامت الاحتلال في الضفة الغربية مستوردة من النيوليبرالية الإسرائيلية. وقد أصبحت هذه الديناميكية واضحة وضوح الشمس بعد تفشّي جائحة كوفيد-19.
يساعد كل ما سبق في الإجابة على أحد الألغاز المركزية في التاريخ السياسي الإسرائيلي: كيف نجح نتنياهو في التشبث بالسلطة لسنوات عديدة واكتساب ثقة أغلبية ضئيلة من الإسرائيليين؟ لماذا يستمر جزء كبير من الشعب الإسرائيلي في دعم نتنياهو، على الرغم من فشل سياساته، وخاصة منذ عام 2022؟ يكمن مفتاح هذا اللغز في المزيج الناجح الذي نجح حزب الليكود في تحقيقه من خلال الجمع بين الاقتصاد النيوليبرالي والسياسة الزبائنية. عمل الليكود من خلال تفكيك دولة الرفاهية على خلق قطاعات في المجتمع الإسرائيلي تعتمد على حكمه. وتتمتع هذه القطاعات بالقدرة على الوصول إلى آليات التعويض مثل السكن الرخيص في الضفة الغربية وإعانات الأطفال السخية. ومن ناحية أخرى، طالب اليسار في إسرائيل دائمًا بإلغاء هذه السياسات، وعمل على تحقيق هذه الغاية خلال الفترات القصيرة التي تولى فيها السلطة. وهكذا فإن التحالف الاجتماعي الذي يقف وراء هيمنة الليكود على السياسة الإسرائيلية لم يعد لديه مكان آخر يتجه إليه. وكان سر نجاح نتنياهو هو حرصه على رعاية هذا الائتلاف واستعداده للذهاب إلى أبعد مدى للحفاظ عليه.
من الاضطراب إلى التضخم: ثورة الليكود النيوليبرالية (1977-1984)
ذهب ميلتون فريدمان في يوليو 1977 إلى إسرائيل. إذ دعاه البروفيسور دون باتينكين من الجامعة العبرية لتلقي درجة فخرية وإلقاء ندوة. رحّبت الحكومة بفريدمان، وطلبت منه البقاء لفترة أطول، حتى يتمكن من المشاركة في بعض المشاورات غير الرسمية. وكما أوضح نائب وزير المالية للسفير الأميركي، فقد اختِير فريدمان «لاستثمار فكرة الليكود من أجل حرير الاقتصاد الإسرائيلي مع هيبة اسم فريدمان». واستغل فريدمان، الذي يعرف كيف يتعامل مع وسائل الإعلام، زيارته لإجراء عدة مقابلات مع الصحف الإسرائيلية. واستغل شهرته بوصفهِ خبيرًا اقتصاديًا بارزًا لبيع الأجندة الاقتصادية لحكومة الليكود الجديدة إلى الجمهور الإسرائيلي، والتي تضمنت الخصخصة وإصلاحات السوق الحرة.
وكما اتضح، في حين كان وزراء الليكود على استعداد للقاء فريدمان خلال زيارته القصيرة، فإنهم لم يتشاوروا معه بشأن خططهم، ولم يكن لفريدمان أي تأثير على القرارات التي اتخذوها. لقد أدرك فريدمان جيدًا أنه لم تكن لدى الحكومة الإسرائيلية أي نية للاستماع إلى نصيحته، إلا إنه كان يعتقد «أنني أستطيع أن أكون أكثر فائدة من خلال توفير قدر من الاحترام والهيبة للبرنامج الاقتصادي [للحكومة الإسرائيلية]». وبعد سنوات قليلة فقط من تلك الزيارة المشؤومة، بذل فريدمان جهودًا لإبعاد نفسه عن البرنامج الاقتصادي لحزب الليكود. ومن السهل أن نفهم السبب. كانت سياستها الاقتصادية فوضوية للغاية خلال سنواتها الأولى في السلطة.
لقد ورث الليكود اقتصادًا في حالة أزمة. تعرض الاقتصاد الإسرائيلي في عام 1973 لضربة مزدوجة. لقد عانت إسرائيل من التكاليف المرتفعة لحرب يوم الغفران وارتفاع أسعار النفط المصاحب لها (ارتفعت تكاليف الوقود في إسرائيل بنسبة 277% خلال عام 1974). بلغ معدل التضخم 36 بالمئة سنويًا. وردت حكومة إسحاق رابين (التي تولت السلطة بين عامي 1974 و1977) برفع الضرائب للتعامل مع العجز المتزايد في الميزانية وميزان المدفوعات. خُفِّضت قيمة الجنيه الإسرائيلي[6] عدة مرات لتقليل الواردات وزيادة القدرة التنافسية للصادرات الإسرائيلية. وكانت النتائج مثيرة للقلق. انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي من 11.9% في عام 1972 إلى -0.3% في عام 1976، أي أن الاقتصاد كان ينكمش. وفي ظل الوضع الاقتصادي المتردي، فلا عجب أن يخسر حزب العمل بشكل فادح أمام الليكود في انتخابات عام 1977.
كان أول قرار اقتصادي رئيس اتخذه حزب الليكود هو التحول نحو التقشف. في يوليو/تموز 1977، أعلن سيمحا إيرليتش، أول وزراء المالية الأربعة في حزب الليكود على مدى السنوات البع التالية، عن خفض الميزانية بمقدار 143 مليون دولار (أي ما يقرب من 1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 1976)، وخفض دعم الغذاء والوقود بنسبة 25%، وخفض قيمة الجنيه الإسرائيلي بنسبة 2%. وجاء هذا الإعلان عشية لقاء بين رئيس الوزراء مناحيم بيغن والرئيس جيمي كارتر. كانت إسرائيل في ذلك الوقت تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساعدات الاقتصادية الأميركية. ساعدت تحويلات رأس المال الأميركي في تغطية العجز الكبير في ميزان المدفوعات الإسرائيلي. وعلى وجه التحديد، كان بيغن على وشك أن يطلب من كارتر مساعدات ضخمة قدرها 2.3 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 30.5% عن طلب العام السابق. وقبيل الاجتماع، أشارت إدارة كارتر إلى حكومة بيغن بأن إسرائيل يجب أن تنظم بيتها الداخلي وإلا فإنها ستواجه احتمال خفض المساعدات الأميركية. وكان المؤتمر الصحفي الذي عقده إيرليتش، والذي أعلن فيه عن إجراءات التقشف، بمثابة رد على تلك الضغوط.
ثم جاءت الثورة الاقتصادية في أكتوبر 1977. خطّط لها في سرية تامة خمسة مسؤولين فقط في وزارة الخزانة، وأُبلِغ عنها وزير الخزانة الأميركي مايكل بلومنثال (Michael Blumenthal) قبل يومين فقط، كان البند الرئيس في الحزمة التي ناقشتها الحكومة في 28 أكتوبر/تشرين الأول هو جعل الجنيه الإسرائيلي قابلًا للتحويل بالكامل لأول مرة منذ عام 1939 (كانت الانتداب البريطاني على فلسطين قد تبنى الرقابة على العملة خلال الحرب العالمية الثانية). وكان صندوق النقد الدولي على علم بهذه الخطة، وكان يمارس ضغوطًا على الخزانة الإسرائيلية لتبنيها. وكان صندوق النقد الدولي يتمتع بنفوذ كبير؛ لأن إسرائيل كانت تعتمد على قروضه أيضًا. كما طُلب من الوزراء الموافقة على إلغاء مختلف التدابير التي تحمي الصناعة الإسرائيلية من منافسة الواردات. وحثّ رئيس الوزراء بيغن المشاركين على الموافقة على الحزمة من أجل «زيادة الحرية الاقتصادية». وقد تأثر مجلس الوزراء بعرض بيغن، وصوت لصالح الخطة. وكما هي الحال دائمًا، لم يكن ميلتون فريدمان على علم بما يجري. ولكن عندما سمع عن الإجراءات التي اتخذتها حكومة بيغن، شعر بالبهجة وقال: «هذا هو أحد أعظم الأشياء التي حدثت لإسرائيل منذ تأسيسها»[7].
انتهت تجربة العلاج بالصدمة دون أي علاج. ارتفع معدل التضخم إلى 167% بحلول عام 1979. وتضخم الدين الخارجي، وزاد العجز التجاري. ولم تتحقق أهداف الخصخصة التي وضعتها الحكومة. وبحلول ذلك العام، بدأت الصدمة النفطية الثانية، نتيجة للثورة في إيران، ولم تكن إسرائيل مستعدة للتعامل معها. واستقال إيرليتش استقالةً مخزية في نوفمبر/تشرين الثاني 1979[8]. وجاء في مكانه ييغال هورفيتز، الذي حاول التعامل مع هذا المأزق بالعودة إلى التقشف. وباعتباره وزير التجارة والصناعة المنتهية ولايته، كان هورويتز يتمتع بمعرفة واسعة بالشؤون الاقتصادية. ولكنه كان ينتمي إلى حزب صغير منشق كان متحالفًا مع الليكود وكان يفتقر إلى قاعدة السلطة. وعندما لم يحظ طلبه بخفض الميزانية بدعم مجلس الوزراء، استقال في يناير/كانون الثاني 1981.
كان بديل إيرليتش هو يوروم أريدور الماكر، وهو عضو طموح في ارتقى في صفوف الليكود. كانت سياساته مرتبطةٌ بالسياسة أكثر منها بالاقتصاد. خفَّضَ أريدور الرسوم الجمركية على الأجهزة الإلكترونية والأجهزة المنزلية والسيارات تخفيضًا حادًّا قبيل انتخابات عام 1981. وبفضل أجهزة التلفاز من إنتاج شركة سوني والسيارات الرخيصة من إنتاج شركة سوبارو، شكر الناخبون الإسرائيليون حزب الليكود بمنحه فوزًا ضئيلًا في صناديق الاقتراع. أراد أريدور بعد الانتخابات العودة إلى التقشف وربط الشيكل الإسرائيلي بالدولار. وعندما تسربت تفاصيل خطة أريدور للدولرة إلى الصحافة، قوبلت بإدانة عامة. ونتيجة لذلك، استقال أريدور في أكتوبر/تشرين الأول 1983. وكان وزير المالية التالي، ييغال كوهين أورغاد (יגאל כהן-אורגד)، يشرف على فترة تضخم خارج عن السيطرة وصل فيها إلى 445% عام 1984. ولم يكن لديه الوقت لوضع خطة شاملة للتعامل مع الأزمة، إذ لم يمكث في منصبه سوى إحدى عشر شهرًا.
ورغم هذا التاريخ الفوضوي، حقق بيغن ووزراءه نجاحات عديدة ساعدت في دفع التحول النيوليبرالي إلى الأمام. وكان إنجازهم الأول هو إضعاف العمل المنظم. لقد كان هذا تحديًا هائلًا. كانت الهستدروت، أكبر اتحاد عمالي في إسرائيل، منظمة لا مثيل لها. أُنشئت قبل الاستقلال، عندما حكم البريطانيون فلسطين، وبُنيت ليكون بمثابة البنية التحتية البيروقراطية للدولة. ولم يقتصر دورها على تشكيل نقابات للعمال فحسب، بل امتلكت وأدارت أيضًا خدمات اجتماعية مثل بورصات العمل والعيادات الصحية والمستشفيات والمدارس وصناديق التقاعد. وقد احتفظت بمعظم هذه الوظائف بعد الاستقلال. عندما وصل حزب الليكود إلى السلطة، كانت الهستدروت قد نجحت في تنظيم 1.5 مليون عامل، أو 80% من القوة العاملة. وكانت الهستدروت أيضًا ثاني أكبر جهة توظيف في إسرائيل. كانت تمتلك عدة مصانع وتسيطر على 25 بالمئة من اقتصاد الدولة. وكانت القيادة المنتخبة للهستدروت خاضعة لسيطرة حزب العمل، الذي أصبح الآن حزب المعارضة الرئيس.
وإذا لم يكن ذلك كافيًا، فإن حزب الليكود لم يكن متفقًا على رأي واحد فيما يتصل بمصير العمل المنظم. كان حزب الليكود عبارة عن مزيج من حزبين رئيسيين: حزب حيروت (الحرية بالعبرية) والحزب الليبرالي. كان الليبراليون يمثلون أصحاب الأعمال المتوسطة والكبيرة في القطاع الخاص، وبالتالي كانت لديهم مصلحة كبيرة في كسر قوة الهستدروت. لكن حزب حيروت كان حزبًا قوميًا استخدم دائمًا الخطاب الشعبوي وتحدث بلغة شعرية عن ضرورة ضمان رفاهية الشعب. كما كان لحزب الليكود تمثيل كبير في الهستدروت، وانتخِب بعض قادته مسؤولين في الهستدروت. وهكذا انقسم الليكود بين جناحيه، المائل إلى البرجوازية والمائل إلى عامّة الشعب.
تمكن ييغال هورفيتز، رغم خدمته لمدة عام واحد فقط في منصب وزير المالية، من تحقيق اختراق مهم. كان هورفيتز رجل أعمال ثريًا يمتلك مزرعة ألبان خاصة كبيرة. وبذلك، فقد دخل في منافسة مع شركة تنوفا، وهي شركة ألبان أكبر بكثير مملوكة للهستدروت. علمته هذه التجربة سر شركات الهستدروت. لقد كانوا كبارًا وأقوياء لأنه كان لديهم القدرة على الحصول على قروض رخيصة، والتي كانوا يأخذونها من صناديق التقاعد المملوكة للهستدروت. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1980، أقر هورفيتز تشريعًا وضع حدًا لهذه الممارسة. واضطرت شركات الهستدروت إلى اللجوء إلى البنوك الخاصة والحصول على قروض بفوائد عالية. وكانت تلك بداية النهاية لشركات العمال. وقد استخدم وزراء المالية الذين خدموا في حكومة الليكود أساليب أخرى لإضعاف الهستدروت. ولقد تجنبت هذه النقابات استشارة قياداتها قبل اتخاذ القرارات الكبرى (وهي ممارسة شائعة قبل عام 1977)، وحاولت تجنب تعويض العمال عن تآكل الأجور الناجم عن التضخم، وشجعت التوظيف من خلال عقود العمل الفردية وليس الجماعية[9].
فوائد للموالين: كيف نجح الليكود في جذب ناخبيه؟
وفي حين عمل حزب الليكود على تفكيك البرامج الاجتماعية الشاملة، فقد عمل على خلق آليات تعويض عملت على تخفيف الآثار القاسية الناجمة عن إصلاحاته السوقية. لكن هذه المؤسسات لم تكن متاحة إلا للمجموعات التي كانت مستعدة لدعم الرؤية القومية والدينية لحزب الليكود. وكان المثال البارز على ذلك هو سياسة الليكود فيما يتصل بالإسكان العام. انخفض بناء المساكن العامة داخل إسرائيل انخفاضًا حادًا في ظل حكم الليكود، من 27,730 شقة في عام 1975 إلى 7,320 شقة في عام 1983. وركّزت وزارة الإسكان، بقيادة ديفيد ليفي، عامل البناء السابق، كل مواردها على تطوير تجمعات حضرية شديدة التركيز في الضفة الغربية (حتى يومنا هذا، يعيش 85% من المستوطنين الإسرائيليين على أقل من 6% من أراضي الضفة الغربية). وكانت جميعها على مسافة ساعة بالسيارة أو أقل من تل أبيب والقدس. وقد خططت وزارة الإسكان لهذه البلدات الصغيرة، وبنت بنيتها التحتية، وعبَّدت الطرق التي من شأنها ربطها بالمناطق الحضرية في إسرائيل، ومنحت منحًا وقروضًا سخية لأولئك الذين اختاروا العيش هناك. وفي حين انخفض البناء خارج الضفة الغربية وارتفعت أسعار المساكن، ازدهر الإسكان المدعوم داخل الضفة الغربية. وكان نجاح هذه السياسات هائلًا. كان يعيش في الضفة الغربية في عام 1977 حوالي عشرة آلاف إسرائيلي. وبحلول عام 1986، ارتفع هذا العدد إلى خمسين ألفًا. وبذلك أُسِّس للرابط بين الليكود والضفة الغربية والإسكان الرخيص[10]. وكان هذا إنجازًا محوريًا وضعَ الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة الدنيا على أعتاب الليكود، وخلق حافزًا قويًا لدائرة انتخابية واسعة للتصويت للحزب.
أدت سياسات الليكود في الوقت نفسه إلى تحويل السُّكان اليهود المتشددين (الحريديم) إلى قطاع تابع آخر. اعتمد الحريديون حتى عام 1977 على دولة الرفاهية. كان بإمكانهم شراء مساكن رخيصة. عملت النساء في نظام التعليم الحريدي. وقد وجد الرجال فرص عمل من خلال تقديم الخدمات الدينية التي يحتاجها غير الحريديين، حيث عملوا حاخاماتٍ ومرشدينَ دينيين ومشرفين على الكشروت[11]. وقد غيرت سياسات الليكود كل هذا مع جفاف الإسكان العام. شرع بيغن في اتخاذ إجراءات أعادت تشكيل المجتمع الحريدي، وجعلته يعتمد على المساعدات. قام بإزالة القيود المفروضة على عدد طلاب المدرسة الدينية المعفيين من الخدمة العسكرية. كما تعهد، في اتفاقه مع الحزب الذي يمثل اليهود الحريديم، بإعطاء أفراد الخدمة الحريديين مخصصات مالية، على الرغم من أن العديد من أفراد المجتمع لم يخدموا في الجيش. كما زِيدت مخصصات الأطفال لليهود الحريديم، في حين خُفِّضت مخصصات الأطفال لغير الحريديم. ونتيجة لذلك، ارتفع عدد طلاب المدارس الدينية بين عامي 1977 و1999 من 8240 إلى 31,174، وبحلول عام 2015 وصل هذا العدد إلى 64,605. في عام 1977، كان 5% فقط من العائلات في مدينة بني براك اليهودية المتشددة لديها ستة أطفال أو أكثر. وبعد مرور عقد من الزمن، وصلت نسبة الأسر التي لديها ستة أطفال إلى 15%. كان الاتجاه خلال تلك السنوات عند عموم السكان هو العكس[12] .
وكانت السياسة الخارجية لبيغن بمثابة استمرار لسياسته الداخلية ولكن بوسائل أخرى. في أعقاب صدمة النفط عام 1973، كانت إدارة كارتر حريصة على التوصل إلى اتفاق سلام من شأنه تسوية مسألة قناة السويس، القناة الرئيسة لتجارة الطاقة بين الخليج الفارسي وأوروبا. فُتحت القناة أمام الملاحة الدولية عام 1975 بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه واشنطن مع إسرائيل. ولكن أي مواجهة مصرية إسرائيلية أخرى قد تؤدي إلى إغلاق قناة السويس، وبالتالي إلى ارتفاع آخر في أسعار البنزين، وهو الأمر الذي قد يثير غضب الناخبين الأميركيين. ورد بيغن على تلك الضغوط ببدء محادثات سرية مع الرئيس المصري أنور السادات. كان بيغن، الذي كان عادة من المؤيدين المتحمسين لفكرة «أرض إسرائيل الكبرى»، على استعداد لإعادة شبه جزيرة سيناء بالكامل بشرط أن يتخلى السادات عن مطالبه بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبذلك قدّم بيغن تنازلًا إقليميًا كبيرًا لحماية الأراضي المرغوبة إستراتيجيًا في الضفة الغربية. وقد أُبرِمت اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر عام 1979 على هذا الأساس.
عندما دخل رونالد ريغان البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 1981، تنفّس بيغن الصعداء. فقد كان الرئيس المسن يتبنى آراء مؤيدة لإسرائيل بقوّة ويعتبر الدولة اليهودية حليفًا أساسيًا في المعركة العالمية ضد «الإمبراطورية الشريرة». وأصبح بيغن، بعيد إعادة انتخابه في عام 1981، بيغن أكثر جرأة واتخذ خطًا أكثر صرامة في سياسته الخارجية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية في مرمى بصره. كان لمنظمة التحرير الفلسطينية قوات عسكرية في لبنان، وبالتالي كان بإمكانها معارضة حملة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية من خلال إطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات في الجليل. بدأت إسرائيل في يونيو/حزيران 1982 عملية السلام في الجليل. استمرت العملية عدة أشهر وأحدثت قدرًا كبيرًا من الدمار للسكان المدنيين اللبنانيين، وكانت ناجحة في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. بالنسبة لبيغن، كان سحق منظمة التحرير الفلسطينية أمرًا أساسيًا لمواصلة حملة الاستيطان في الضفة الغربية التي أطلقتها حكومته. إن نفي منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، بعيدًا عن مناطق الصراع في غزة والضفة الغربية، منعها من الانخراط في كفاح مسلح فعال ضد توسع المستوطنات الإسرائيلية.
الوحدة والاستقرار: حزب العمل والليكود يتوصلان إلى اتفاق (1984-1991)
خططت إسرائيل بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان لإقامة حكومة صديقة ثم الانسحاب. ولكن الأمور لم تسر حسب الخطة. وغرق الجيش الإسرائيلي في مستنقع من الحرب منخفضة الكثافة. وقد أدت التكاليف المرتفعة لتمويل الحرب إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في إسرائيل. وأصبح بيغن يشعر باليأس على نحوٍ متزايد، واستقال في أكتوبر 1983. وتمكنت الحكومة المؤقتة من البقاء لعدة أشهر إضافية. وأخيرًا، تمت الدعوة إلى إجراء انتخابات، وأجريت في صيف عام 1984.
وقد أدت هذه الانتخابات إلى برلمان معلق. وكان الحل الذي توصل إليه شمعون بيريز، زعيم حزب العمل، وإسحاق شامير، زعيم حزب الليكود، هو تشكيل ائتلاف كبير، المعروف باسم «حكومة الوحدة»، يشارك فيه كلا الحزبين. وقد حظيت بأغلبية ساحقة في البرلمان. وكان ذلك إنجازًا آخر على طريق إسرائيل نحو النيوليبرالية. وكان الإنجاز التاريخي الذي حققه حزب العمل الإسرائيلي هو إنشاء دولة الرفاهية والمؤسسات الملحقة بها. والآن بعد أن عاد حزب العمل إلى أروقة الحكومة للمرة الأولى منذ عام 1977، أصبح بوسعه أن يعمل على إنعاش دولة الرفاهية بعد أن حاول حزب الليكود تدميرها. إلا أن حزب العمل فعل العكس، وتبنّى النيوليبرالية ودفعها إلى أبعد مما كانت قد وصلته.
بدأ شمعون بيريز، الذي شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 1984 و1986، فترة ولايته بالتوجه إلى وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز (George Shultz). وطلب بيريز حزمة مساعدات عاجلة بقيمة إجمالية قدرها 4 مليارات دولار لمساعدة إسرائيل في التعامل مع أزمتها الاقتصادية. ورد شولتز، الخبير الاقتصادي الشهير ووزير الخزانة الأسبق، بأن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستجابة لهذا الطلب إلا بعد أن تتبنى إسرائيل الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاج إليها احتياجًا كبيرًا. ونتيجة لذلك، اتفق شولتز وبيريز على تشكيل فريق أميركي إسرائيلي من الخبراء الاقتصاديين للعمل على وضع خطة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الإسرائيلي المضطرب.
وباعتبارهما ممثلين له في الفريق المشترك، عيّن شولتز اثنين من المؤيدين القويين للنظريات الاقتصادية لميلتون فريدمان: هربرت شتاين (Herbert Stein) وستانلي فيشر (Stanley Fischer). وطلب شولتز من فيشر وشتاين أن يوضحا للإسرائيليين أن مصير حزمة المساعدات الإضافية مشروط بقبول توصياتهما. ويتذكر فيشر أنه كلما واجهت المفاوضات مشكلة، كان يقول لمحاوره الإسرائيلي ببساطة: «إن الوزير يعتقد أن...» وقال فيشر بأن هذه الجملة كانت فعّالة أكثر بكثير من التفسيرات المتعلقة بالنماذج الاقتصادية[13].
ومن جانبه، عيَّن بيريز أساتذة اقتصاد إسرائيليين، مثل مايكل برونو، الذين كانوا من أتباع جون ماينارد كينز في السابق ولكنهم تحولوا إلى أنصار متحمسين للمذهب النقدي خلال أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وأصبحوا على نحو متزايد مقتنعين بأن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إسرائيل ناجمة عن دولة الرفاهية التي كانت سخية للغاية والنقابات العمالية التي كانت قوية للغاية. لقد كتبوا أن هذه الأمور كانت ترفًا لم يعد بإمكان إسرائيل تحمله[14].
وقد ناقشت حكومة الوحدة في 30 يونيو/حزيران 1985 الخطة الاقتصادية التي ساعد الفريق المشترك من خبراء الاقتصاد الإسرائيليين والأميركيين في صياغتها. وكان هذا الاجتماع واحدًا من الاجتماعات الأكثر دراماتيكية في تاريخ إسرائيل. واستمرت حتى الليل ولم تنته إلا في ساعات الصباح من اليوم التالي. وقد قدم بيريز، الذي ترأس الاجتماع بصفته رئيسًا للوزراء، الخطة باعتبارها دواءً مرًا يتعين على إسرائيل أن تبتلعه لعلاج مرضها الاقتصادي. لقد عارضته أقلية صاخبة، ولكن بيريز نجح في النهاية في إجبارهم على التراجع. وتصدر قرار مجلس الوزراء بتبني الخطة في الأول من يوليو/تموز عناوين الصحافة الإسرائيلية. فوجئ الجميع في البداية بمدى قسوة الإجراءات التي أقرتها حكومة الوحدة.
وتضمن القرار خفض قيمة الشيكل بنسبة 19%، وخفض الميزانية بمقدار 1.5 مليار دولار، وتسريح 3% من موظفي الحكومة (حوالي 10 آلاف موظف)، وتجميد الأسعار والأجور لمدة ثلاثة أشهر. ورغم صعوبتها، إلا أن هذه لم تكن المكونات الأكثر أهمية في الخطة. في واقع الأمر، كانت عمليات تسريح العمال وخفض الميزانية قابلة للعكس إلى حد كبير. إن ما جعل خطة الاستقرار لعام 1985، كما أصبحت معروفة، نقطة تحول هو القوانين المصاحبة لها. وقد أدى ذلك إلى تحويل عملية اتخاذ القرار في الشؤون الاقتصادية من السياسيين إلى التكنوقراطيين، الذين كانوا في الغالب من خبراء الاقتصاد. ويجب أن نضيف أن هذا كان اتجاهًا عالميًا. من الصعب تصديق ذلك في أيامنا هذه، ولكن حتى أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان تأثير خبراء الاقتصاد على سياسة الحكومة محدودًا للغاية. كان بإمكانهم تقديم النصح، لكن القرارات كانت تتخذ بيد السياسيين. وكان هذا على وشك أن يتغير بشكل كبير. لقد تعاون الاقتصاديون الإسرائيليون والأميركيون الذين كانوا جزءًا من فريق شولتز-بيريز لتقديم القوانين الجديدة باعتبارها ضرورة مطلقة، على الرغم من أنهم اعترفوا بعد سنوات عديدة بأنهم كانوا يتظاهرون بذلك.
وتحت ضغط شتاين وفيشر، اللذين اعتقدا، مثل ميلتون فريدمان، أن المعروض النقدي هو الأمر الوحيد الذي يهم في الاقتصاد، أُدرِج قانونٌ يكرس استقلال بنك إسرائيل في الخطة. وحتى تلك النقطة، كان محافظ البنك خاضعًا تمامًا لأهواء السياسيين. ومن المقرر أن يقرض البنك الحكومة ما يصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الإجراء المعروف في اللغة الإسرائيلية باسم «طباعة النقود». ومن هنا جاء اسم «قانون عدم الطباعة» الذي أطلق على قانون بنك إسرائيل. ومن تلك النقطة فصاعدًا، يصبح المحافظ هو الذي يتخذ القرار السياسي الأسمى بشأن أسعار الفائدة وحدها. كان بإمكان الحكومة في ذلك الوقت أن تطلب ولكنها لم تكن قادرة على إصدار الأوامر. وبذلك وضع القانون حدًّا صارما لقدرة الحكومة على زيادة ديونها وإنفاق الأموال.
وقد أُقِرّ قانونان آخران كتشريعات طوارئ، لكنهما اكتسبا صفة دائمة في السنوات التالية. وكما هو الحال بالنسبة لقانون بنك إسرائيل، فقد كرَّس قانون «أساس الميزانية» (Foundation of the Budget) وقانون التسوية فاعلية التكنوقراط. لقد حولت هذه القوانين الاقتصاديين في وزارة المالية إلى ديكتاتوريين اقتصاديين. وقد سمح لهم قانون أساس الميزانية بالسيطرة على ميزانيات الوزارات وكذلك كل هيئة موازية، مثل المجالس البلدية. لا يمكن إنفاق سنت واحد دون موافقة وزارة الخزانة. ومكّن قانون الترتيبات (the Arrangement Law) خبراء الاقتصاد في وزارة المالية من إرفاق كل ميزانية بمشروع قانون شامل مطول يتضمن الإصلاحات الاقتصادية التي يرون أنها ضرورية. وكانوا يكتبونها عادة بلغة غامضة كثيفة لا يستطيع الوزراء ولا أعضاء البرلمان فهمها. في كثير من الأحيان تٌقدّم في اللحظة الأخيرة، مما يترك للسياسيين وقتًا قصيرًا جدًا لقراءة أو استيعاب ما يصوتون عليه[15]. ووصف أحد الصحافيين هذا القانون بأنه «مناهض للديمقراطية».
وتوضح هذه القوانين مدى تماسك المشروع النيوليبرالي الإسرائيلي. لقد جاءت الحكومات، وذهبت بسرعة مدهشة منذ عام 1985، ولكن التكنوقراط، الذين خدموا لفترة أطول من الوزراء، وتمتعوا بسلطة هائلة، تمكنوا من تعزيز أجندتهمالالاقتصادية، على الرغم من ذلك. بلغ الإنفاق الحكومي في عام 1985 في إسرائيل 65% من الناتج المحلي الإجمالي. وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمن، أصبح الإنفاق الحكومي واحدًا من أدنى المعدلات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إذ بلغ أقل من 40%. كان هذا بمثابة شهادة على قدرة الخبراء الاقتصاديين على إجراء سلسلة من التغييرات التدريجية على الميزانيات والقوانين التي بدت غامضة بالنسبة لعامة الناس، ولكنها كانت لها عواقب حقيقية[16].
وكانت هناك عقبة محتملة أخرى أمام خطة الاستقرار وهي العمل المنظم. كان من المفترض أن تثير القرارات الأحادية الجانب التي اتخذتها الحكومة بشأن تسريح العمال وتجميد الأجور غضب الهستدروت. ولكن في تلك المرحلة، كانت الهستدروت تعاني من الديون المرتفعة لمؤسساتها الاقتصادية، وخاصة شركات العمال وصندوق المرضى، فضلًا عن أسعار الفائدة المرتفعة التي كان عليها أن تدفعها. كانت الهستدروت على استعداد للمشاركة في خطة الاستقرار مقابل وعد بأن وزراء العمل سوف يرتبون عمليات إنقاذ لشركاتها المتعثرة[17].
لماذا تبنى حزب العمل الإسرائيلي النيوليبرالية؟
تمثل خطة الاستقرار اللحظة التي أصبحت فيها الأيديولوجية النيوليبرالية مهيمنة. لم يعد هذا مشروعًا يمينيًا. وبفضل المشاركة الحماسية لحزب العمل، أصبحت النيوليبرالية سياسة مشتركة بين الحزبين. والسؤال هنا عن السبب. ما مصالح حزب العمل في الترويج لهذا المخطط؟ لا شك أن للضغوط الأميركية دوراً في هذا، ولكن ما يبرز بوضوح هو مدى ضآلة مقاومة بيريز للمطالب الأميركية، فمن المؤكد أنه كان بوسعه أن يدافع قليلًا، بالاعتماد على المقاومة داخل حكومته.
ولعل بيريز أدرك أنه لا توجد وسيلة أخرى للتعامل مع التضخم. ولكن الخبيرة الاقتصادية الكينزية المؤيدة للصناعة إيستر ألكسندر (אסתר אלכסנדר)، التي كانت تقدم المشورة لوزارتي الطاقة والشؤون الاقتصادية، اعتقدت أن هذا الادعاء زائف. وبحسب قراءتها، انخفض التضخم انخفاضًا كبيرًا بفضل اتفاقيتين شاملتين وقّعتا بين وزارة المالية والهستدروت والقطاع الخاص في نوفمبر/تشرين الثاني 1984 ويناير/كانون الثاني 1985. ولم يرتفع معدل التضخم مرة أخرى إلا في فبراير/شباط 1985 عندما خالف المسؤولون في وزارة المالية وعودهم من خلال خفض دعم الغذاء من جانب واحد وإنهاء ضوابط الأسعار[18].
والتفسير الأكثر ترجيحًا هو أن تبني حزب العمل الحريص على هذا البرنامج كان بمثابة استجابة لجوانبه المؤسسية. وبحلول عام 1985، أدركت الطبقة المتوسطة المتعلمة أن الاضطرابات التي شهدتها إسرائيل في عام 1977 لم تكن استثناءً، بل كانت في واقع الأمر علامة على تحول ديموغرافي واجتماعي في المجتمع الإسرائيلي. وقد أدى تزايد أعداد المستوطنين والمتدينين المتشددين، فضلًا عن تحالف الطبقة العاملة مع الليكود، إلى منح حزب الليكود أغلبية دائمة. وقد اعتبرت انتخابات عام 1984 دليلا قاطعًا على ذلك. لقد دخل حزب الليكود الانتخابات في أسوأ الظروف الممكنة. لقد رحل الخطيب الناري بيغن. وكان على رأس الحزب إسحاق شامير الذي كان رجلًا باهت اللون. وكان الاقتصاد في حالة ركود. ظلت الحرب في لبنان مستمرة. وكان بيريز، الذي خسر أمام الليكود في الدورتين الانتخابيتين السابقتين، واثقًا من أنه سيخرج منتصرًا هذه المرة. ولكن من المثير للدهشة أن التحالفات الاجتماعية التي شكلها بيغن في السنوات السابقة صمدت في وجه الاختبار الانتخابي. خسر حزب الليكود سبعة مقاعد في البرلمان لكنه لم يُهزم. ووجد بيريز أن حزب العمل، والأحزاب الراغبة في الخدمة في ائتلاف بقيادة الحزب، لا تستطيع الفوز بالأغلبية في البرلمان.
وبدلًا من تغيير برنامج حزبه بطريقة تساعد حزب العمل على كسب أصوات ناخبين جدد، فضّل بيريز إعطاء السلطة إلى البيروقراطيين غير المنتخبين الذين ينحدرون من صفوف البرجوازية المتعلمة. وكان لدى بيريز ميل طبيعي إلى هذه الفكرة، حيث ارتقى هو نفسه إلى القمة كخبير تكنوقراطي خدم في وزارة الدفاع في أدوار مختلفة بين عامي 1953 و1965. وعلاوة على ذلك، ووفقًا لاستطلاعات الرأي المعاصرة، فإن هذه الطبقة تدعم حزب العمل. وعلى حد تعبير أحد علماء تلك الفترة، فإن «نخبة المعرفة» كانت «حليف بيريز الوحيد في ذلك الوقت». كان بيريز في الواقع يستدعي الخبراء والعلماء والمحللين من أروقة الحكومة والأوساط الأكاديمية في كثير من الأحيان لتقديم المشورة، وفحص السياسات، وكتابة المذكرات. وقد أدى هذا إلى انفصال بيريز عن أجهزة الحزب، لدرجة أن أحد نشطاء الحزب اشتكى من أن الفريق المحيط به كان «محترفًا للغاية» وأن رئيس الوزراء كان يستمع في كثير من الأحيان إلى «ما يقوله الأساتذة». وهكذا نجح بيريز في تشكيل «تحالف المعرفة والقوة»[19].
ويبدو أن بيريز وقيادة حزب العمل أدركوا أن المشروع النيوليبرالي يلعب لصالح الطبقات التي تدعم الحزب. ونتيجة للإصلاحات التي دعمها بيريز، تغيرت صلاحيات اتخاذ القرارات السياسية. وأصبحت الآن في أيدي قوى السوق غير الشخصية والبيروقراطيين الذين لا وجه لهم. قد يستمر الليكود في الفوز في صناديق الاقتراع، لكن اتخاذ القرار الحقيقي سيكون الآن في أيدي التكنوقراط في بنك إسرائيل، ووزارة المالية، والشركات الخاصة[20].
وجدت حملة الاستيطان في الضفة الغربية في الوقت نفسه خزانًا جديدًا من القوى العاملة. بحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين، كان اليهود الحريديون يواجهون أزمة سكنية حادة. لقد أدت خصخصة الإسكان إلى ارتفاع أسعار المساكن، وإلى مستويات تتجاوز بكثير قدرات اليهود الحريديين. ولم يكن كثير من الرجال يعملون واعتمدوا على المخصصات التي أقرتها حكومة الليكود الأولى. إن ما أرادوه قبل كل شيء هو العيش بالقرب من القدس وأماكنها المقدسة. وكان ديفيد ليفي، الذي كان ما يزال يشغل منصب وزير الإسكان، يرغب في توسيع مشروعه لبناء المستوطنات التي كانت في الأساس عبارة عن ضواحي. وهكذا نشأت المستوطنتان الحريديتان بيتار عيليت (التي أنشئت في عام 1988) وموديعين عيليت (1991). كما اهتمت وزارة الإسكان ببناء طرق واسعة تتجاوز البلدات الفلسطينية وتضمن لسكان المستوطنات اليهودية المتطرفة سهولة الوصول إلى القدس.
حتى تلك النقطة، كان الحريديون يدعمون حزب الليكود بسبب الضرورة الاقتصادية البحتة، وليس من باب حب أرض إسرائيل الكبرى. وقد غيرت المستوطنات الجديدة كل ذلك. وبدأت مصالح المستوطنين والحريديون تتوافق مع حل المستوطنات الجديدة لأزمة السكن التي كانوا يعانون منها. وعلى نحو متزايد، تبنت القيادة اليهودية المتشددة الطموح الإقليمي لحزب الليكود، حيث قامت نسبة متزايدة من ناخبي الحزب ببناء منازلهم في الضفة الغربية. وبحلول عام 2013، كان 13% من اليهود المتشددين يعيشون هناك. وكان انضمام المتطرفين اليهود إلى صفوف الليكود أمرًا مهمًا بالنسبة للمستوطنين أيضًا. وعندما أنشئت المستوطنات اليهودية المتشددة الأولى، كانت حملة الاستيطان في الضفة الغربية تفقد زخمها الديموغرافي. وقد عكست المستوطنات اليهودية المتشددة هذا الأمر. وتلد الأسرة المتوسطة من اليهود المتشددين سبعة أطفال أو أكثر، ونتيجة لهذا، نما عدد سكان كل من هذه المستوطنات التي أنشئت في أواخر الثمانينيات بنسبة تتراوح بين 10% و12% سنويًا. اعتبارًا من عام 2022، كان يعيش 146 ألف شخص في أكبر ثلاث مستوطنات يهودية متشددة، والتي شكلت ثلث سكان المستوطنين في الضفة الغربية[21].
السلام النيوليبرالي: رابين والتسعينيات الصاخبة
كانت إسرائيل بحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين قد أدخلت التغييرات على اقتصادها التي سمحت لها بأن تصبح جزءًا من المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة للعولمة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. تمكنت إسرائيل من تحقيق التوازن في ميزانيتها واستقرار عملتها. وقد أدت خصخصة صناعات الهستدروت وبعض شركات القطاع العام إلى خلق فرص مربحة للمستثمرين من القطاع الخاص. إلا إنه ثبتَ أن اندلاع الموجة الأولى من الانتفاضة الفلسطينية، التي بدأت في عام 1987، كان بمثابة عبئًا على الاقتصاد وعائقًا أمام الاستثمار الأجنبي المباشر. لقد اختفت إحدى الفوائد الرئيسة التي جلبها الاحتلال للاقتصاد الإسرائيلي، أي توفير العمالة الفلسطينية الرخيصة، حيث لم يُسمح للعمال الفلسطينيين بدخول إسرائيل خلال سنوات الانتفاضة.
وأدركت البرجوازية الإسرائيلية أن الوقت قد حان للتحرك، فسارعت إلى دعم إسحاق رابين، الذي أصبح الآن زعيمًا لحزب العمل. وكانت دورة الانتخابات عام 1992، التي فاز بها حزب العمل، هي الأولى منذ سنوات عديدة التي تمت فيها مناقشة مستقبل الأراضي المحتلة مناقشة صريحة. أعلن دوف لاوتمان، قطب صناعة المنسوجات والرئيس السابق لجمعية المصنعين، قبل أسبوع واحد من الانتخابات أن التقدم في محادثات السلام مع الفلسطينيين فقط هو الذي يمكن أن يجعل إسرائيل جذَّابة للمستثمرين الأجانب. وكان مُحقًّا. كانت عملية السلام في أوسلو التي روجت لها حكومة حزب العمل بمثابة اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) بالنسبة لإسرائيل. وبحلول عام 1993، ساعدت عملية السلام في إنهاء الانتفاضة وتمكين إسرائيل من الاندماج في الاقتصاد العالمي. كما أدّت اتفاقيات أوسلو إلى تحسين علاقات إسرائيل مع الأردن ومصر، وكما هو الحال مع اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية بالنسبة للشركات الأميركية، فقد سمحت لرجال الأعمال الإسرائيليين بالاستفادة من العمالة الرخيصة في الدول المجاورة من خلال نقل خطوط الإنتاج التي تتطلب عمالة كثيفة إلى هناك. ووصل الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الإسرائيلي، والذي كان يكاد يكون لا يكاد يذكر حتى عام 1993، إلى ما بين 1.5 و2 مليار دولار سنويا بحلول منتصف العقد. افتتحت ماكدونالدز أول فرع لها في إسرائيل في العام الذي بدأت فيه عملية أوسلو. كما حرّرت حكومة حزب العمل التدفقات المالية الداخلة والخارجة في عامي 1992 و1996 على التوالي.
كانت حقبة أوسلو بمثابة نعمة كبيرة للبرجوازية الإسرائيلية ورأس المال الخاص. واستمرت الخصخصة بوتيرة سريعة في قطاعات متنوعة مثل الإسكان والنقل والموارد الطبيعية والاتصالات والتعليم وبناء السفن. أُلغيت الرسوم الجمركية، وزاد دخول إسرائيل للأسواق العالمية. كما ركزت حكومة رابين أيضًا على تطوير الصناعات التكنولوجية عالية التقنية في إسرائيل. وضُوعِفت ميزانية مكتب كبير العلماء، الذي يستثمر في البحث واتطوير غير العسكري. كما أنشأت الحكومة صندوقًا لرأس المال الاستثماري مملوكًا للدولة يسمى يوزما (والذي يعني برنامج «المبادرة») والذي استثمر في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا. وكانت النتائج مثيرة للإعجاب: ففي حين لم تشكل المنتجات ذات التقنية العالية سوى 14% من صادرات إسرائيل من السلع المصنعة في السبعينيات و28% في أواخر الثمانينيات، فقد وصلت حصتها خلال التسعينيات إلى 54%.
وقد شرَّعت حكومة رابين قوانين إضافية أدت إلى زيادة الاستقلال المؤسسي لوزارة المالية وبنك إسرائيل، مثل قانون العجز (Deficit Law)، الذي عمل على الحد من قدرة الحكومة على إنفاق الأموال، وكل هذا أدى إلى تقليص قدرة البرلمان والحكومة على الإشراف على قرارات التكنوقراط. ولم تكتفِ الحكومة بتمكين خبراء الاقتصاد فحسب، بل عززت سلطة التكنوقراط القضائيين أيضًا. ومن هنا جاءت «الثورة الدستورية» في عام 1992، التي منحت المحكمة العليا لأول مرة سلطة استبعاد القوانين التي تعتبرها غير دستورية.
أمّا بالنسبة للطبقة العاملة الإسرائيلية، كانت سنوات أوسلو بمثابة صفقة قاسية. وكان ناخبو الليكود متشككين بشأن «عوائد السلام» الموعودة. ومن وجهة نظرهم فإن قرار حكومة رابين بتجميد أعمال البناء في الضفة الغربية أدى إلى منعهم من الحصول على السكن الرخيص. كما هددت عملية السلام سبل عيشهم بطرق أخرى. وقد سمح ذلك لإسرائيل بتعزيز علاقاتها مع الدول العربية المجاورة. وانتهزت الشركات الإسرائيلية الفرصة لإغلاق المصانع التي تتطلب عمالة كثيفة، والتي كانت تقع في كثير من الأحيان على أطراف إسرائيل حيث يعيش ناخبو الليكود، وإعادة فتحها في مصر أو الأردن، حيث العمالة أرخص. وكان دوف لاوتمان نفسه الذي دعم رابين في عام 1992 قد نقل، بحلول عام 1998، نصف خطوط إنتاج المنسوجات الخاصة به إلى الخارج. كما غيَّرت حكومة رابين طريقة تخصيص الدعم للصادرات. وفي حين كانت هذه الموارد تُمنح في السابق للمصانع في أطراف إسرائيل، فإنها الآن تُخصص لشركات التكنولوجيا الفائقة في المناطق الحضرية الأكثر ربحية.
وعملت حكومة رابين على إضعاف الهستدروت بالقدر نفسه من الجدية والاجتهاد الذي فعلته حكومات الليكود. وكان السبب في ذلك هو أنه بحلول أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدأ يُنظر إلى الهستدروت باعتبارها عبئًا وليس أصلًا. أجبرت الحالة المزرية التي كانت عليها مؤسساتها الاقتصادية في عامي 1986 و1988 حزب العمل على البقاء ضمن حكومة الوحدة لترتيب القروض وعمليات الإنقاذ لشركات العمال وصندوق المرضى. وهكذا فإن احتياجات الهستدروت منعت حزب العمل من التمايز عن الليكود. كما سعى جيل جديد من القادة الشباب الذين خرجوا من اتحادات الطلاب إلى تدمير هيمنة الهستدروت داخل الهيئات الداخلية للحزب التي تختار المرشحين على المستويين المحلي والوطني. وبفضل مباركة قيادة الحزب، تمكن هؤلاء السياسيون