سلّط اقتحام مستشفى كمال عدوان وإحراقه واعتقال كادره الطبي وعلى رأسه الدكتور حسام أبوصفية، بعد حصار دام عدة أشهر، الضوء مجددا على استهداف قوات الاحتلال للقطاع الصحي الفلسطيني بغية تدميره منذ اليوم الأول للحرب على غزة.
في ورقة بعنوان "تدمير القطاع الصحي في القطاع" نشرت على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية في إطار مشروع التوثيق، يقول الباحث ليث حنبلي إن نية إسرائيل إنهاك القطاع الصحي في غزة وتدميره كانت واضحة منذ بداية الحرب؛ ففي 14 تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد مرور 7 أيام فقط على الحرب، أمر جيش الاحتلال بإخلاء 22 مستشفى في شمالي قطاع غزة.
ويستند حنبلي إلى شهادة الدكتور غسان أبو ستة، بعد أن أمضى ستة أسابيع يعمل في مستشفيات متعددة في القطاع، والذي يقول إن تدمير النظام الصحي هو الهدف الرئيسي للإستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية، خلال حرب الإبادة الجماعية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني، وهو الاستنتاج الذي خلص إليه أيضا فريق جنوب أفريقيا القانوني، لدى اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في إحالته القضية إلى محكمة العدل الدولية، حيث يورد أن "أكثر من أي شيء آخر تقريبا، كان الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة بمثابة هجوم على نظام الرعاية الصحية الطبية في غزة".
كما أن خطاب قوات الاحتلال الإسرائيلي وممارساتها، كما يقول حنبلي، لا يترك مجالا للشك في هذه الاستنتاجات، فمنذ 9 شباط/ فبراير، لم يعد أي من المستشفيات في قطاع غزة يعمل بكل طاقته، إذ إن 13 فقط من مجموع 36 مستشفى تعمل بجزء من قدراتها وهو عدد يتضاءل منذ ذلك التاريخ، هذا في حين أن عيادات الرعاية الصحية الأولية، لا يعمل منها سوى 17%، ومرافق الرعاية الصحية الأخيرة المتبقية مكتظة تماما.
وتفيد حصيلة غير نهائية أن إسرائيل قتلت أكثر من ألف طبيب وممرض فلسطيني في هجمات ممنهجة على الكوادر الصحية على قطاع غزة ما بين أكتوبر 2023 وأكتوبر 2024، وبحسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة فإن "أكثر من 310 آخرين من الكوادر الطبية اعتقلوا وعذبوا وأعدموا في السجون والمعتقلات".
وخلال الحرب، منع جيش الاحتلال أيضا دخول الإمدادات الطبية والوفود الصحية ومئات الجراحين إلى غزة، حيث يتهم مكتب الإعلام جيش الاحتلال باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج، ضمن خطة لتقويض المنظومة الصحية في غزة.
وبحسب بيانات الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة، فإن المنظومة الصحية الفلسطينية تعيش فترة صعبة منذ بداية العدوان الإسرائيلي، نتيجة تعرضها للاستهداف المباشر.
خلال 450 يوما من الحرب، خرج أكثر من 34 مستشفى من أصل 36 عن الخدمة نتيجة تدميرها وقصفها وإحراقها من قبل جيش الاحتلال، بالإضافة إلى تدمير 80 مركزا صحيا واستهداف أكثر من 134 سيارة إسعاف في أكثر من 480 هجوما إسرائيليا.
للإضاءة على هذا الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع ليث حنبلي، الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمشرف على منصة "توثيق تدمير القطاع الصحي الفلسطيني".
"عرب 48": يبدو واضحا اليوم أن استهداف وتدمير القطاع الصحي الفلسطيني كان جزءا أساسيا من إستراتيجية الحرب على غزة؟
حنبلي: عندما نتحدث عن إحراق مستشفى، كما حدث مؤخرا في كمال عدوان وحدث سابقا في مجمع الشفاء الطبي، الذي يشكل ربع قطاع المستشفيات الفلسطيني في غزة، فإن الهدف هو إخراج هذه المستشفيات عن الخدمة نهائيا. هذا يضمن عدم تمكنها من العودة إلى العمل في ظل الحصار الذي يمنع دخول مواد البناء والمعدات الطبية اللازمة لإعادة تأهيلها على المدى المنظور أو حتى البعيد.
رأينا ذلك في مجمع الشفاء الطبي حيث جرت إعادة افتتاح أجزاء منه، ولكن باستخدام مبانٍ متنقلة بشكل رئيسي، مع استعمال بعض المباني بشكل جزئي. وهذا يؤكد أن تدمير القطاع الصحي الفلسطيني يهدف إلى إخراجه نهائيا عن الخدمة، وهو ما ينسجم مع إعلان الجيش الإسرائيلي عن نيته إجراء تطهير عرقي في قطاع غزة.
"عرب 48": هذا ينسحب على كل القطاع وليس الشمال فقط؟
حنبلي: صحيح. التطهير العرقي يستهدف كل القطاع، مع تركيز خاص على الشمال، حيث يخططون لجعله منطقة عازلة خالية من أي تواجد فلسطيني. هذا يتضح من الإستراتيجية الإسرائيلية التي تعمل على تدمير مقومات الحياة ومنع إدخال أي مساعدات غذائية لشمال القطاع، إضافة إلى أوامر الإخلاء التي شملت جميع مناطق الشمال. وإن كان هناك تدمير وقتل وحصار في مختلف مناطق القطاع، فإنه ليس بنفس الشراسة التي يشهدها الشمال.
"عرب 48": استهداف المستشفيات كان من اليوم الأول للحرب وشمل جميع المستشفيات والمراكز والطواقم الطبية؟
حنبلي: في اليوم الثالث للحرب جرى استهداف مستشفى في بيت حانون. المنهجية التي تعتمدها إسرائيل في استهداف المستشفيات تشير إلى وجود إستراتيجية واضحة. تبدأ العملية بالتحريض بأن منشآت المستشفى تُستخدم لأهداف عسكرية من قبل المقاومة، ثم يتم قصف محيط المستشفى. بعد ذلك، يُعاق الوصول إلى المستشفى ويُحاصر بشكل كامل قبل أن يتم قصفه بشكل مباشر، ومن ثم اقتحامه. هذا السيناريو حدث مع غالبية مستشفيات القطاع، والتي انتهى المطاف ببعضها بالتدمير والحرق.
"عرب 48": قوات الاحتلال تتعمد خلال اقتحاماتها أيضا تدمير محتويات المستشفيات، وخاصة الأجهزة والمعدات الطبية؟
حنبلي: صحيح، يتم تدمير ماكينات غسيل الكلى ومولدات الأكسجين والمولدات الكهربائية وغيرها من الأجهزة والمعدات، ما يؤكد النية التي تحدثنا عنها في إخراج المستشفيات عن الخدمة، بحيث لا يتسنى إعادة تشغيلها في ظل ظروف الحصار.
"عرب 48": الاستهداف شمل جميع المستشفيات رغم عدم وضوح عدد المستشفيات التي خرجت عن الخدمة؟
حنبلي: أولا، المستشفيات التي ما زالت قيد الخدمة تعمل بشكل جزئي، ولكن ماذا يعني أنها تعمل بشكل جزئي؟ على سبيل المثال، تشير معطيات "أوتشا"، منسقة الخدمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، إلى أن 17 مستشفى من مجموع 36 ما زالت تعمل بشكل جزئي.
واحد من هذه المستشفيات هو "مستشفى العودة" في جباليا، الذي لم يتسلم منذ أكثر من شهر أي معدات طبية رغم المناشدات المتكررة. الأمر ذاته ينطبق على المستشفى الإندونيسي في غزة. وهذان المستشفيان يعملان كنقاط طبية وليس كمستشفيات، أي أنهما لا يقدمان الخدمات المخصصة لتقديمها.
هذا ناهيك عن أن تلك المستشفيات التي تعمل بشكل جزئي قد سبق أن جرى إخراجها عن الخدمة، وأُعيدت إلى العمل جزئيا بفضل الجهود الجبارة وإصرار الكادر الطبي الغزاوي على إعادة تأهيلها.
"عرب 48": ما هو الهدف، حسب رأيك، من استهداف وتدمير القطاع الصحي الفلسطيني؟
حنبلي: الجيش الإسرائيلي أعلن صراحة لماذا يستهدف القطاعات المدنية، بما فيها القطاع الصحي، قائلا إنه يريد جعل قطاع غزة منطقة غير قابلة للعيش. إذا لم يكن هناك "قطاع صحي"، لن تكون هناك قدرة على استمرار الحياة.
أما الهدف الثاني فهو معنوي، يرتبط بكيفية استهداف القطاع الصحي. لا بد أن نستذكر في هذا السياق مجزرة مستشفى المعمداني وحرق مجمع الشفاء وإخراج الناس من المستشفيات عند اقتحامها بصورة مذلة.
كل هذه الأفعال تمثل مظاهر استعراضية يقوم بها الجيش الإسرائيلي، الذي ليس بحاجة إلى مثل هذه المسرحيات للقيام بالتدمير، لكنه يستهدف رمزية الصحة وقدرة القطاع الصحي على البقاء صامدا في غزة كجزء من مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني. الجيش الإسرائيلي يريد ترسيخ فكرة أنه قادر على تدمير أكثر الأشياء قيمة في نظرنا وزعزعة كل ما يرمز للحياة في الثقافة الفلسطينية.
"عرب 48": أو ربما بسبب غياب رموز سيادية سياسية في القطاع، كون غزة ليست دولة بالمعنى الكامل، وجد جيش الاحتلال ضالته في استهداف المستشفيات كصروح مدنية لاستعراض انتهاك السيادة الفلسطينية؟
حنبلي: الحقيقة أنه برغم كل شيء، فقد رأينا في قطاع غزة سيادة على القطاع الصحي أكثر من الضفة الغربية. هناك قدرة على بناء قطاع صحي وطني في غزة أكثر من أي مكان آخر في فلسطين.
ومن هنا، فإن جزءا من بسط السيادة الصهيونية يتمثل في السيطرة على الجسد الفلسطيني. عندما تبسط إسرائيل سيادتها على القطاع الصحي، تتحكم في الجسد الفلسطيني.
من ناحية ثانية، وبما أن انتهاك القطاع الصحي محرم دوليا، فإن بسط السيادة الإسرائيلية لا يقتصر على الجسد الفلسطيني فحسب، بل يمتد إلى انتهاك العرف الدولي والقوانين الدولية. إسرائيل تثبت أنها تستطيع بكل بساطة انتهاك المحرمات الدولية دون أي مساءلة.
"عرب 48": امتحان القوة ذاك جرى تتويجه باقتحام مستشفى كمال عدوان وإحراقه واعتقال كادره الطبي، وعلى رأسه الدكتور حسام أبو صفية، بعد أشهر من الحصار؟
حنبلي: ما جرى في مستشفى كمال عدوان يمثل تتويجا لسياسة التطهير العرقي في الشمال. ففي اليوم التالي لإحراق المستشفى وإخراجه عن الخدمة، تم الإعلان عن طلب إخلاء منطقة الشمال بشكل كامل.
في هذا السياق، يجب أن نشير بوضوح إلى الدكتور حسام أبو صفية، مدير المستشفى، الذي كان رمزا للصمود في وجه المخطط. ظل يخاطب العالم وينقل التفاصيل اليومية لمعاناة المستشفى والمرضى والكادر الطبي في ظل الحصار والهجمات المتكررة لقوات الاحتلال.
العالم الذي لم يحرك ساكنا لإنقاذ المستشفى لم يتحرك أيضا لإنقاذ حياته المهددة بالخطر في سجن الموت الإسرائيلي "سديه تيمان".
"عرب 48": الأطباء والطواقم الطبية لعبوا دورا بطوليا في الدفاع عن مستشفياتهم وعن القطاع الصحي، في ذات الوقت الذي كانوا يقدمون فيه الإسعافات الطبية للمصابين والجرحى الذين تكدسوا في المستشفيات بفعل القصف الإسرائيلي؟
حنبلي: القطاع الصحي بأطبائه وممرضيه وعامليه جسد الحضور الفلسطيني في وجه مشروع الإلغاء الصهيوني. مثّل القطاع الصحي الحياة ورفض الموت، فقاوم وصمد في الحرب والحصار، ودفع ثمن ذلك بمئات الشهداء والجرحى والمعتقلين.
تدمير القطاع الصحي يستهدف تدمير الصحة في غزة. في هذا السياق، يندرج تدمير ومنع الغذاء والماء والكهرباء والمأوى، مما يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض المزمنة. هذا التدمير له تبعات مباشرة على المستقبل الفلسطيني، مما يجعل غزة غير قابلة للحياة.