غيرت الحرب السورية المشهد السياسي والعسكري في البلاد بحكم تعدد الفرقاء والفواعل السياسيين والعسكريين، وأنتجت العمليات العسكرية سواء من طرف النظام المخلوع، أو من طرف فصائل المعارضة مجموعة فصائل وجماعات عسكرية مسلحة غير حكومية تحتكم إلى نموذجي قرار: الأول يتبع الدول المُمولة، والثاني هو قرار الاندفاع الذاتي للتحرير؛ ومن ثم السيطرة وفرض النفوذ. خلال هذه العمليات التي استمرت لمدة 12 عامًا على الأقل، كان السائد في البلاد انتشار السلاح والانفلات الأمني ليستغل نظام الأسد الحالة لتعزيز موقفه في أن المناطق التي لا يسيطر عليها، وينتشر فيها السلاح، وتتعدد فيها الفصائل من حقه، بحسب روايته، أن يدخلها ويضمها إلى سيطرته بقبضة حديدية، وبالنسبة للمناطق التي خضعت لبرنامج "المصالحة الوطنية" الذي أطلقه عام 2017 برعاية روسية، فيترك السلاح مع هؤلاء لتصفية حساباتهم الشخصية واختلاق الفوضى لإلهاء سكان هذه المناطق عن مشروع الثورة، ولا سيما مناطق الشمال السوري ودرعا والقنيطرة وريف دمشق الغربي.
وبمعزل عن جيش النظام، الذي هو بحكم القانون جيش نظامي يخضع لقواعد وانضباطيات وزارة دفاع النظام السابق، وتشكيلاته والفرق العسكرية التي تنضوي تحته، كان هناك مجموعة ميليشيات مسلحة غير حكومية وغير رسمية، وتقاتل معه تحت مسمى "القوات الرديفة" تتألف من قوات الدفاع الوطني وهي قوات محلية من أبناء الأحياء والقرى السورية، والميليشيات الشيعية (زينبيون وفاطميون وألوية أبي الفضل العباس ومقاتلي حزب الله...إلخ)، وكلها مسجلة لدى متبرعين وممولين إما محليين (كما الحال بالنسبة لجمعية البستان التي كان يمولها رامي مخلوف) أو دوليين (تمويل إيران وحزب الله). هذه الميليشيا الرديفة منفلتة وغير منضبطة، ولم تكن تخضع لقواعد جيش النظام، وبلغ عددها عام 2018 حوالي 150-200 ألف بحسب مركز مالكوم كير في معهد كارنيغي؛ وشكلت عبئًا على النظام السابق بعد أن أصبحت تعمل لمصالحها الذاتية وجمع ثروات بعيدًا عن أعين النظام، كون قادتها من أصحاب السوابق الإجرامية ومنخرطين بأعمال غير مشروعة كتجارة المخدرات والسلاح والجنس؛ وانتهت الحاجة إليهم بعد بسط النظام سيطرته على أغلب المدن السورية ليبدأ بتصفية بعض قادة الدفاع الوطني مع انتهاء الأعمال العسكرية الكبرى، كما الحال في تصفية قائد فوج الجولان مجد حيمود وقائد الدفاع الوطني في القنيطرة وليد أباظة عام 2017 وعبد القادر حمو في الحسكة عام 2023. ومع تراجع الحرب، أصبحت ممارسات النهب والافتراس التي مارستها الميليشيا غير مستدامة، مما دفع النظام إلى تفكيكها وتقييدها، إلا أنها تبقى مسيرة هذه المجموعة تعكس الاستخدام البراغماتي للنظام للميليشيات للحفاظ على السلطة، وكذلك التحديات التي يواجهها في إدارتها.
على مستوى فصائل المعارضة السورية المسلحة، فإن الانتشار الأفقي للفصائل وتنوع المسميات والداعمين كان له أثر في تشكيل فصائل متفقة-متناحرة وصل عددها عام 2018 حوالي 170 فصيلًا مثل فصائل الجيش الحر (كمظلة عامة) وألوية أجناد الشام وأحرار الشام وأولية أحفاد الرسول وحركة نور الدين الزنكي... إلخ. تباينت مقدرات هذه الفصائل بحسب مناطق انتشارها الجغرافي، على الحدود أو في الداخل، وتباين مصادر التمويل، وتباين حجم المعارك التي كان يقودها كل فصيل؛ إذ نلاحظ أن فصائل القطاع الجنوبي (القنيطرة ريف دمشق الغربي درعا) تمتلك أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة، بينما في المنطقة الوسطى اقتصرت على الخفيفة والمتوسطة. اللافت أن هذه الفصائل كانت لا مركزية، ولا تتبع في معاركها لغرفة عمليات موحدة تأتمر لها، رغم وجود المجلس العسكري الأعلى لقيادة الثورة السورية، والذي تأسس عام 2012؛ الأمر الذي كرّس حالة الانفصال والاختلاف بين الفصائل، لا سيما في المنطقة الجنوبية من سورية بعد الاشتباك بين فصائل "شباب السنة" و "فصيل اليرموك" عام 2017 وانشقاق أحمد العودة عن الجيش الحر، وتلقيه الدعم من القوات الروسية ليصبح في الفيلق الخامس الممول من روسيا.
استقرت الأمور على هذه الحال حتى 8 ديسمبر 2024، عندما أعلنت غرفة قيادة إدارة العمليات العسكرية بقيادة هيئة تحرير الشام إسقاط نظام بشار الأسد، وحل الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية التابعة للنظام المخلوع، وعكفت القيادة العامة على ترتيب الشؤون العسكرية للبلاد ورسم الخطوط العريضة لإنشاء وزارة دفاع سورية تحمل سمات المرحلة المقبلة من سورية ما بعد الأسد وتلم شمل الفصائل المسلحة في البلاد، وحلها ودمجها في جيش موحد.
يمثل سقوط نظام بشار الأسد نقطة تحول حاسمة في تاريخ سورية المعاصر، وهو فرصة لإعادة بناء الدولة في سورية، بما في ذلك إعادة إنتاج جيش رسمي وقانوني، يكون قادرًا على إعادة ضبط المشهد العسكري والأمني في سورية وفق ضرورات المرحلة المقبلة، بما يساعد على احتكار العنف الشرعي، وفي توطيد السلطة، وإضفاء الشرعية على القوة، وضمان النظام الاجتماعي في مجتمع متعدد. في منظور ماكس فيبر، فإن الدولة هي المؤسسة الشرعية التي تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة وتضعه ضمن قوانين تتيح للأفراد ممارسته برعاية الدولة وقوانينها على أساس تفويض من المؤسسة؛ مع إبقاء الدولة كمخوَّل وحيد لاستخدام العنف كونها السلطة الشرعية، وعزل أي من الجماعات التي تستخدم السلاح والعنف والتعامل معها على أساس إنكار الشرعية. من يخوّل الدولة باحتكار العنف هم الأفراد الراغبون بالحصول على الأمن مقابل تفويض قوة أعلى منهم باستخدام العنف ضد المنفلتين وغير الشرعيين؛ على اعتبار أن المسألة المهمة هنا هي "الشرعنة والتفويض". ولفهم هذه العلاقة والتحولات في السلطة يمكن القول إنه في الواقع استخدام العنف من قبل الدولة ليس شرعيًا بدون تكليف وتفويض من الشعب، ويجب الحصول على شرعيته من الجمهور العام لتنفيذ رغبتهم في الحصول على الأمن.
إن قيام نظام الأسد بتوجيه بنادقه وترسانته نحو المدنيين العزل وتخويفهم بعنف ممنهج، وجعل المدينة سجناً كبيرًا، لم يكن شرعيًا أو عاديًا، وأضعف الدولة بعد أن وضع السلطة العسكرية رهينة روسيا وإيران والميلشيا الطائفية التي أوغلت بدماء السوريين دون أي تفويض من السوريين أنفسهم. أدت سطوة الميليشيا المنفلتة في عهد نظام الأسد إلى فوضى السلاح وتوسيع الهوة بين "الدولة" والميليشيا غير القانونية المنتشرة في مناطق سيطرته، وارتفع مؤشر الدولة الفاشلة الانقسامية المعتمدة على الميليشيات في تثبيت حكمها، وهو ما جعلها تسقط بسرعة بأيدي قوات عملية ردع العدوان.
من المهم في المرحلة الحالية أن تبني الدولة حرساً داخليًا لحماية العملية السياسية وتحقيق أهداف المرحلة الانتقالية وتجنب أي محاولة لفرض وصاية على البلاد بحجة الانفلات الأمني. وعلى هذا فإنه من المفيد بالنسبة للإدارة الحالية الحديث عن عملية احتكار العنف الشرعي واحتكار الولاء للدولة الشرعية، ولا يمكن لأي دولة أن تنطلق في عملياتها السياسية والمؤسساتية دون احتكار العنف الشرعي لضمان أمن الدولة وأمن المواطن؛ لا سيما وأن جيش نظام المخلوع قد تم حله. وبالنسبة لفصائل المعارضة المتنوعة، فإنه تم الحديث عن أن ينضموا إلى قيادة مشتركة بالتعاون بين الضباط المنشقين الخبراء بالجيش النظامي ككتلة عسكرية ولها أوامر مركزية.
تميز حنة آرنت بين السلطة والعنف، مشيرة إلى أن العنف يظهر عندما تتآكل السلطة الفعلية، وتندثر صورة القائد، فيلجأ إلى العنف غير المبرر وغير الشرعي. بالنسبة لها، تستند السلطة إلى العمل الجماعي والإجماع، بينما يُعد العنف أداة لتحقيق أهداف فورية. إن اعتماد نظام الأسد على العنف لقمع المعارضة يعكس هذا التمييز. ومع انهيار النظام، يثير الفراغ في السلطة تساؤلات حول كيفية انتقال جهاز الدولة الجديد من الإكراه إلى بناء التوافق.
يمكن أن نستنبط من رؤية آرنت أن خطوة قيادة إدارة العمليات العسكرية في دمج الفصائل العسكرية المعارضة في جيش وواحد من شأنه أن يعزز ثقل كتلة جيش دفاعي واحد وجامع يحتكم لمشورة وزارة دفاع مخولة من الشعب بفرض الأمن لتحقيق انتقال آمن إلى سورية الجديدة. الجيش القانوني في سورية الجديدة يجب أن يكون أكثر من مجرد قوة عنيفة؛ بل يجب أن يجسد الإرادة الجماعية لسكان متنوعين. يتطلب ذلك إعادة تكوين السلطة من خلال الحكم التشاركي والعمليات السياسية الشاملة. بدون هذا الأساس، سيظل الجيش أداة قمع أخرى بدلاً من كونه ضمانة للاستقرار.
وهنا لا بد لنا من الحديث عن الأيديولوجيا والعنف القانوني على اعتبار أن الأطر القانونية لاستخدام العنف تلغي غالبًا الهياكل الكامنة للهيمنة والسلطة. ففي السياق السوري، يجب على المسؤولين عن تشكيل جيش قانوني ذي سلطة وصلاحيات في البلاد أن يتعامل مع الانقسامات الطائفية الراسخة والتأثيرات الخارجية عليها بما يفضي لحفظ الأمن والسلام الداخلي مع رفض التدخلات الخارجية وأهمها التدخلات الإيرانية ورفض أي تصريح من شأنه أن يعزز الفرقة الطائفية في البلاد. يجب أن يواجه الجيش الجديد هذه التفاوتات التقليدية والأوتار التي يعزف عليها الطائفيون في المرحلة الحالية لتجنب تكرار ديناميكيات نظام الأسد. وعليه فإن عملية إنشاء جيش قانوني هي بحد ذاتها جهد أيديولوجي. يتطلب ذلك تصوير المؤسسة ككيان محايد ومشروع، مع معالجة الرموز والبقايا المادية للنظام القديم. يتمثل التحدي في ضمان أن تكون هذه الشرعية حقيقية، وليست مجرد واجهة أيديولوجية. يُعد استعادة هذا الاحتكار أمرًا أساسيًا لسيادة الدولة. ومع ذلك، تؤكد نظرية فيبر أيضًا على أهمية الشرعية المستمدة من السلطة القانونية-العقلانية أو التقليدية أو الكاريزمية. ففي مجتمع منقسم مثل سورية، حيث تُعتبر أشكال السلطة التقليدية والكاريزمية محل نزاع، يصبح الأساس القانوني-العقلاني لاستخدام العنف ذا أهمية قصوى، وبالتالي يجب أن يعمل الجيش القانوني بموجب إطار واضح وشفاف يعكس سيادة القانون. يتطلب ذلك مؤسسات قوية لتنظيم استخدام القوة وآليات للمساءلة لمنع إساءة استخدام السلطة.