يصعب استحضار بلدٍ فقدَ هذا القدر من النفوذ في فترة قصيرة من الزمن كما فقدته إيران. حيث كانت، وحتى وقت قريب، الطرف الإقليمي الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، وأكثر نفوذًا من مصر أو إسرائيل أو المملكة العربية السعودية أو تركيا. ولكن في غضون أشهر قليلة، هوى صرح النفوذ الإيراني، وغدت أشد ضعفًا وأقرب إلى الخطر؛ مما كانت عليه منذ عقود، ربما منذ حربها التي استمرت عقدًا من الزمان مع العراق أو حتى منذ ثورة 1979.
وقد أثار هذا الضعف جدلًا واسعًا حول السبيل الأمثل للولايات المتحدة وشركائها للتعامل مع التحديات التي تفرضها إيران. فثمة من يرى في هذا التراجع فرصة سانحة لتوجيه ضربة شاملة تعالج جميع أبعاد التهديد الإيراني، من قدرات طهران النووية إلى أنشطتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار. بينما يذهب آخرون إلى أن جوهر المشكلة يكمن في وجود الجمهورية الإسلامية ذاتها، وأن تسريع نهايتها هو الحل الوحيد. لكن دروس التاريخ تشير إلى ضرورة التروي والحذر، خاصة في ما يتعلق بما يمكن أن ينتج عن استخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، ناهيك عن محاولات الإطاحة بالنظام القائم واستبداله بنظام آخر يُفترض أنه أفضل.
لا تقتصر القضية على تحديد الأهداف فحسب، بل تمتد إلى ترتيب الأولويات، إذ إن التنازلات أمر لا مفر منه: والسؤال يكمن في تحديد ما يستحق الصدارة. أما في ما يتعلق بالوسائل، فالأمر لا يتعلق بالاختيار بين الدبلوماسية والإكراه، بل بكيفية المزج بينهما بشكل متوازن ومتكامل. فالنهج الأكثر فعالية هو ذلك الذي يهدف إلى إعادة صياغة سياسة الأمن القومي الإيراني عبر الدبلوماسية، على أن تُمارس هذه الدبلوماسية في إطار قوة رادعة واستعداد لاستخدام القوة العسكرية، إذا ما رفضت طهران الاستجابة الكافية للمخاوف الأميركية والغربية.
الرهانات عالية وصعبة ومخاطرها جسيمة. والقرارات التي ستُتخذ في هذا السياق لن تقتصر تداعياتها على الشرق الأوسط فحسب، بل ستؤثر على العالم بأسره، بما في ذلك أسواق الطاقة. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن هذا سيساعد في تحديد المدى الذي يمكنها فيه أخيرا تنفيذ التحول الذي ناقشته منذ فترة طويلة وتحويل الموارد العسكرية بعيدًا عن الشرق الأوسط نحو أولويات أخرى، وأهمها ردع العدوان الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
صعودٌ وهُبوط
نَبَعَ نفوذ طهران الإقليمي إلى حد كبير من تمويلها وتسليحها للجماعات والميليشيات، في قطاع غزّة والعراق ولبنان وسورية واليمن وغيرها. لقد عارضت هذه الجماعات إسرائيل (وأي تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين) وهددت المصالح الأميركية والغربية. وعلى نطاق أوسع، كانت هذه هي الوسائل التي سعت بها إيران إلى تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالحها. وقد أدت هذه الإستراتيجية غير المباشرة إلى مضاعفة التأثير الإيراني في مختلف أنحاء المنطقة، في حين سمحت لطهران بتجنب الانتقام المباشر، أو على الأقل تقليص عواقبه إلى أدنى حد.
كانت إيران المستفيد الرئيس في العراق من حرب الولايات المتحدة في عام 2003، والتي أدت، من خلال إزاحة صدام حسين عن السلطة، إلى القضاء على بغداد السُّنية، والتي كانت راغبة وقادرة على تحقيق التوازن مع طهران الشيعية. استغلت إيران الفوضى التي أحدثها الغزو والتقارب مع الأغلبية الشيعية في العراق لتحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة الخارجية التي تتمتع بأكبر قدر من النفوذ داخل البلاد.
طالما تمتعت إيران منذ فترة طويلة بموطئ قدم قوي في لبنان، الذي كانت فيه جمهرةٌ، إن لم تكن أغلبية، شيعية (مرت عقود منذ التعداد السكاني الأخير). كان حزب الله المتلقي الرئيس للمساعدات الإيرانية من كل نوع، وبالتالي فهو مجهز تجهيزًا أفضل من منافسيه المحليين، يتصرف باستقلال شبه كامل داخل لبنان ــ وكان بمثابة دولة داخل الدولة. وبفضل أصوله العسكرية، وعلى رأسها عشرات الآلاف من الصواريخ، وقربها من الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل، نجح حزب الله في ردع أي عمل إسرائيلي ضد إيران، حيث كان على إسرائيل أن تأخذ في الاعتبار قدرة حزب الله على الرد ضد مواطنيها وأراضيها.
ثم كانت هناك حماس. ولعدة عقود من الزمن، وعلى الرغم من حقيقة أن المجموعة سُنية، فقد دعمتها إيران بالمال والتدريب والأسلحة، بهدف تعزيز خيار المقاومة على حساب أي توجه نحو التكيف أو التسوية في الموقف الفلسطيني تجاه إسرائيل. وفي عام 2006، انتصرت حماس على السلطة الفلسطينية في الانتخابات في قِطاع غزة، مما منحها وطهران قاعدة للعمليات العسكرية ضد إسرائيل، وتحدي السلطة الفلسطينية.
وفي سوريا، بذلت إيران، إلى جانب روسيا، كل ما في وسعها لدعم نظام بشار الأسد عندما كان يتأرجح على حافة الانهيار في أعقاب الربيع العربي. نجح النظام في البقاء على قيد الحياة لمدة تزيد على عقد من الزمن، وتمكن من الحفاظ على الطريق البري الرئيس لإرسال الأسلحة إلى حزب الله. وقد أدّى ذلك إلى إبقاء إسرائيل محاطة بقوى معادية تمارس إيران عليها نفوذًا كبيرًا، الهلال الشيعي الممتد من إيران إلى سوريا ولبنان وقطاع غزّة.
واستثمرت إيران أيضًا في تطوير قوة الحوثيين، وهي جماعة شيعية مقرها اليمن، وكانت طرفًا رئيسًا في الحرب الأهلية (لم تقاتل الحكومة فحسب، بل أيضا قوات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة). منذ بدء الحرب في قطاع غزّة، أدَّت الهجمات الصاروخية التي يشنها الحوثيون على السفن في البحر الأحمر إلى تعطيل التجارة العالمية، مما أجبر سفن الشحن وناقلات النفط على اتخاذ الطريق الأطول والأكثر تكلفة حول أفريقيا. وقد هاجم الحوثيون إسرائيل مباشرةً في بعض الأحيان، وحاولوا ضرب السفن البحرية الأميركية.
جاءت بداية نهاية التفوق الإقليمي لإيران، ومن عجيب المفارقات، مع ما بدا وكأنه انتصار للنظام: هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وما يزال مدى تورط إيران في الهجمات غير واضح، ولكن المذبحة التي أدت إلى مقتل نحو 1200 إسرائيلي وأسر نحو 200 رهينة، لم تكن لتحدث لولا تورط إيران الطويل الأمد مع حماس ودعمها لها. وكان الهجوم، الذي أحرج إسرائيل غير المستعدة، وسمح لحماس لفترة من الوقت بالادعاء أنها الكيان الفلسطيني الوحيد الراغب والقادر على مواجهة إسرائيل، بمثابة نعمة ليس فقط لحماس، بل وأيضًا لإيران، داعمها الرئيس.
وبعد مرور عام أو أكثر، انتهى هذا الانتصار التكتيكي لإيران بهزيمة إستراتيجية. لقد أدَّت العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة إلى إضعاف حماس إلى الحد الذي لم تعد معه قوة قتالية فعالة قادرة على شن هجوم آخر مثل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولقد تبع ذلك سلسلة من الهجمات الإسرائيلية على حزب الله، مما أدى إلى القضاء على قياداته ومخابئ أسلحته، الأمر الذي جعله أضعف بكثير، وأجبره على التخلي عن إصراره الطويل الأمد على أن يقترن أي وقف لإطلاق النار مع إسرائيل بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة.
وقد أدت هذه التطورات إلى تسهيل الإطاحة بالأسد. ولم يعد حزب الله في وضع يسمح له بدعم النظام، الذي اعتمد على الحزب اعتمادًا كبيرًا للاحتفاظ بالسلطة. ومع تركيز روسيا مواردها واهتمامها على أوكرانيا، نجحت القوات المناهضة للأسد، بقيادة الإسلاميين وبدعم من تركيا، في إلحاق الهزيمة سريعًا بالسلالة التي حكمت سوريا بلا رحمة لأكثر من نصف قرن. ومع وجود سوريا في حالة من الفوضى، اغتنمت إسرائيل الفرصة أيضًا للقضاء على جزء كبير من المعدات العسكرية التي يملكها الأسد.
كما أصبحت إيران نفسها الآن أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى. شنت إيران هجومين مباشرين ضد إسرائيل (الأول في أبريل/نيسان، والثاني في أكتوبر/تشرين الأول)، مستخدمة مزيجًا من الطائرات بدون طيار والصواريخ ردًّا على الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا واغتيالها لزعيم حماس في طهران. ولم تُسفِر هجمات إيران إلا عن أضرار طفيفة. وردَّت إسرائيل مرتين، فدمرت الدفاعات الجوية، ومخازن الذخيرة، وعناصر حيوية من القاعدة الصناعية الدفاعية الإيرانية، وأظهرت هذه الضربات قدرة إسرائيل على التحرك العسكري فوق إيران بحرية شبه تامة.
ما ترغبُ بهِ، وما تحتاج إليه
رغم هذه النكسات، فإن هناك ثلاثة مجالات في السلوك الإيراني تثير قلقًا مستمرًا. وقد حظي الأول، وهو دعمه للوكلاء، بأكبر قدر من الاهتمام خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية. والثاني هو برنامجها النووي. زادت إيران كمية اليورانيوم المخصب الذي بحوزتها ومستوى التخصيب. ربما لا يفصلنا عن القدرة على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم الصالح للاستخدام في الأسلحة النووية سوى بضعة أسابيع فقط. ورغم أن تحويل هذا اليورانيوم إلى أسلحة فعلية سيتطلب وقتاً أطول (ما يقدر بستة أشهر إلى عام)، فإن هذا الجدول الزمني قد يُسرَّع بمساعدة شركاء ذوي خبرة، مثل الصين وكوريا الشمالية وباكستان وروسيا.
أما الأمر الثالث فهو الوضع الداخلي في إيران. يَحكم قادة إيران بالإكراه. تُجرى الانتخابات شكليًا، في حين يُفحص المرشحون المحتملون، ويُستبعد العديد منهم. وتظل السلطة النهائية في أيدي رجال الدين غير المنتخبين. الحقوق السياسية مقيدة بشدة بالنسبة للإيرانيين جميعهم، والإنترنت تديره الحكومة، ويتعرض معارضو النظام للاعتقال التعسفي، وتستثنى النساء بسبب ضوابط خاصة. ومن الناحية المثالية، ينبغي للسياسة الأميركية أن تسعى إلى معالجة جميع المجالات الثلاثة المثيرة للقلق، بهدف الحد من تقديم الدعم العسكري للوكلاء، ووضع سقف للبرنامج النووي الإيراني، وهو السقف الذي يمكن التحقق منه، والذي من شأنه أن يوفر تحذيرًا كافيًا إذا حاولت إيران التحرك نحو التسليح النووي، وخلق مساحة سياسية وشخصية أكبر للمواطنين الإيرانيين.
مِنَ المؤكّد تقريبًا أن السعي إلى تحقيق النجاح في المجالات الثلاثة، أي السعي إلى إنهاء البرنامج النووي الحكومي وعرقلة الدعم العسكري للوكلاء ووقف قمع الشعب الإيراني، سوف يفشل. لا بدّ للسياسة الخارجية أن تسعى إلى تحقيق الممكن والمرغوب فيه على حد سواء، ومن المؤكد أن اتباع مثل هذا النهج الطموح سيكون غير واقعي، ويرجع هذا جزئيًا إلى أن ما قد يكون ضروريًا على الأرجح لتحقيق واحد أو اثنين من الأهداف قد يكون غير متوافق مع تحقيق الهدف الثالث.
ينبغي أن يكون البرنامج النووي على رأس الأولويات بالنسبة لصناع السياسات الأميركيين. إن امتلاك إيران للأسلحة النووية ومجموعة من أنظمة الإطلاق سوف يجعلها في وضع يسمح لها بفرض تهديد وجودي على العديد من جيرانها وشركاء الولايات المتحدة الإقليميين المقربين، وفي مقدمتهم إسرائيل. وسوف تكون إيران قادرة أيضًا على التصرف بعدوانية أكبر، بما في ذلك من خلال وكلائها، معتقدة أن قوتها النووية سوف تجعل الآخرين يترددون قبل مهاجمتها مباشرةً. وهناك أيضًا سبب وجيه للاعتقاد بأن من شأن امتلاك إيران للأسلحة النووية أن يدفع العديد من الدول الإقليمية الأخرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وتركيا، إلى تطوير أو امتلاك أسلحة نووية خاصة بها. ومن شأن مثل هذا التطور أن يزيد احتمالات اندلاع صراع في المنطقة (وإن كان من أجل وقف مثل هذه الجهود)، ويزيد احتمالات استخدام الأسلحة النووية بالفعل. وسوف يكون من الصعب للغاية خلق الاستقرار واستدامته إذا تضاعف عدد صناع القرار، وأصبحت المخزونات النووية عرضة لضربة أولى.
ودعا بعض صناع السياسات والمحللين، بدلًا من ذلك، إلى إعطاء الأولوية لتغيير النظام. المنطق وراء هذه الحجة هو أن إيران الديمقراطية الموالية للغرب سوف تتخلى عن الأسلحة النووية (وتعني ما تقوله بالفعل) وتتراجع عن دعم وكلائها. ولكن في حين أن هذا المنطق له ما يبرره، فإنه لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد بأن واشنطن قد تسهّل تغيير النظام بأي درجة من الضمانات، وبالتأكيد ليس في إطار جدول زمني واضح، بغض النظر عن مدى ضعف الجمهورية الإسلامية في الوقت الراهن.
تأتي الأنظمة التسلطية بأشكال وأحجام متعددة. ولا تكون كلها هشّة بالقدر نفسه. والأنظمة الهشة مثل سوريا تحت حكم الأسد، وإيران نفسها تحت حكم الشاه، وليبيا تحت حكم معمر القذافي، والعراق تحت حكم صدام، تميل إلى أن يكون لديها بعض السمات المشتركة: حكم الفرد بدلاً من الزعامة الجماعية، والافتقار إلى المؤسسات، والاعتماد على الإكراه أكثر من الولاء الواسع النطاق، وغياب الآليات المقبولة على نطاق واسع لتداول السلطة، وتركيز قوات الأمن على درء الانقلابات أكثر من خوض الحروب التقليدية. ولكن إيران اليوم مختلفة. ومن المؤكد أن القيادة الإيرانية لا تحظى بشعبية في الوقت الراهن، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلبية الإيرانيين يعارضون النظام. وتشير تقارير إلى انتقادات عامة ملحوظة لكل فُعِل ولكل الإنفاقِ نيابة عن نظام الأسد، بينما كان الإيرانيون يعانون كل يوم. إيران دولة غنية بالطاقة، ولكنها تعاني من نقص في الطاقة. ولكن هذا لا يعني أن الحكومة والنظام السياسي الذي تمثله يفتقران إلى الدعم المحلي الكبير. والأمر الأكثر أهمية هو أن النظام يتمتع بقواعد حقيقية من الدعم الداخلي المستعدة لاستخدام العنف لحمايته. كما أن لإيران مجموعة معقدة من المؤسسات المتداخلة، بما في ذلك مجلس استشاري، ومجلس خبراء، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، والسلطة القضائية، وما إلى ذلك. وكان ترتيب تداول السلطة هذا العام منظمًا نسبيًا بعد وفاة الرئيس في حادث تحطم مروحية.
ومن حيث المبدأ، قد تتضمن سياسة تغيير النظام استخدام العقوبات، والدعم الاقتصادي والعسكري السري لمعارضي النظام، وعدم الاعتراف بالنظام والاعتراف ببديل سياسي، واستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للتأثير في البيئة الإعلامية، والتدخل المسلح. ولكن التاريخ يظهر أنه لا يوجد ما يضمن أن مثل هذه الأدوات سوف تحقق التأثير المطلوب، وخاصة إذا كان النجاح يُعرَّف بأنه استبدال السلطات القائمة بسلطةٍ أفضل (حتى لو كان الأفضل يعني فقط التوافق مع المصالح الأميركية) خلال فترة زمنية محددة.
وفي الوقت نفسه، فإن وقف البرنامج النووي الإيراني ودعمها للوكلاء المزعزعين للاستقرار سيظلان من الأولويات العاجلة. وكما كانت الحال مع إستراتيجية الاحتواء التي تبنتها واشنطن خلال الحرب الباردة، والتي على الرغم من تركيزها على تشكيل السياسة الخارجية السوفييتية، فإنها ساهمت في انهيار النظام السوفييتي بعد أربعة عقود من الزمان، فإن الأولوية لابد أن تكون للحد من قدرات إيران وتشكيل سلوكها الخارجي. وقد يكون لهذه الجهود تأثير أيضًا على التنمية الداخلية، ولكن هذا ينبغي أن يحظى بأولوية أقل.
اختيارات خاطئة
إن المناقشات حول كيفية تحقيق هذه الأهداف غالبًا ما تُصوّر الدبلوماسية واستخدام القوة العسكرية وكأنهما بديلان متعارضان. ولكن من الأفضل أن نفكر فيهما باعتبارهما متكاملين، وأن يُستخدما بانسجامٍ فيما بينهما. لدى الدبلوماسية المدعومة باستخدام موثوق للقوة فرصة أفضل بكثير للنجاح من الدبلوماسية دون مثل هذا التهديد، في حين أن لدى استخدام القوة العسكرية فرصة أفضل بكثير للحصول على دعم في الداخل والدولي إذا قُدّم بعد رفض الدبلوماسية التي اعتبرت معقولة. وكما لاحظ جورج كينان (George Kennan)، مؤلف مبدأ الاحتواء، ذات مرة بسخرية: «ليس لديك أي فكرة عن مدى مساهمة قوة مسلحة هادئة صغيرة في الخلفية في تعزيز اللباقة العامة والود في الدبلوماسية».
لا بد للدبلوماسية أن تستكشف إمكانية التوصل إلى صفقة كبرى: حيث يتعين على إيران أن توافق على سقف مفتوح وقابل للتحقق لبرنامجها النووي، مما يحد من كمية المواد المخصبة التي يمكنها امتلاكها ومستوى التخصيب، ويضمن اكتشاف أي نشاط أو قدرة نووية محظورة قبل وقت طويل من تمكنها من إنتاج جهاز نووي. ومن شأن الاتفاق أيضًا أن يمنع الدعم العسكري الإيراني للجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله وحماس والحوثيين. وسوف يفرض ذلك قيودًا على برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني. وبالتالي فإن مثل هذا الترتيب سوف يختلف اختلافًا كبيرًا عن خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، التي وضعت حدودًا زمنية للقيود النووية وتجاهلت سلوك إيران الإقليمي.
وبموجب مثل هذا الاتفاق، سوف تكون إيران قادرة على الحفاظ على برنامج للطاقة النووية، ولو في ظل قيود شديدة ومراقبة تدخلية، كما يمكنها أن تقدم الدعم السياسي والاقتصادي (ولكن ليس العسكري) للجهات الفاعلة الإقليمية. إن العقوبات الاقتصادية سوف تخفف بشكل كبير (وحتى تلك العقوبات التي بقيت يمكن تخفيفها أو إزالتها إذا منحت طهران قدرًا أكبر من الحرية للإيرانيين). وسوف تقبل الولايات المتحدة وتستعد للاعتراف بالحكومة الإيرانية الحالية، وتتخلى عن محاولات تغيير النظام. وينبغي لواشنطن أن تكون مستعدة لتقديم هذا الترتيب إلى الكونغرس باعتباره اتفاقًا رسميًا، لطمأنة إيران إلى أن الاتفاق سوف يظل قائمًا حتى بعد تغيير الإدارة.
ولكن لماذا قد توافق طهران على هذا الأمر؟ بادئ ذي بدء، تواجه الحكومة ضغوطًا هائلة. لقد شهدت تآكلًا خطيرًا في موقعها الإستراتيجي وأصبحت معرضة بشدة للهجوم العسكري. لقد انخفضت قيمة عملتها. انخفضت أسعار الطاقة، وفي الوقت نفسه لا توجد في المنازل ما يكفي من الطاقة لتدفئة الشقق ومواصلة إنتاج المصانع. وقد تزايدت حدة الاستياء العام، الذي كان مرتفعًا بالفعل، في أعقاب الأحداث في سوريا. لقد ساهمت العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة في الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها إيران، ومن المفترض أن الوعد بتخفيف العقوبات إلى حد ما قد يكون جذّابًا لأن من شأنه أن يخفف الضغوط الداخلية على النظام.
ومن وجهة نظر طهران، فإن الهدف الأكثر أهمية هو الحفاظ على النظام الذي أنشأته ثورة 1979. وقد تسبب هذا الهدف في حدوث تحولات سياسية في الماضي: ففي عام 1988، قبل آية الله الخميني نهاية الحرب بين إيران والعراق دون تحقيق النصر، وهو القرار الذي قارنه بشرب السم، من أجل إنقاذ الجمهورية الإسلامية. والوضع الحالي مشابه: فالولايات المتحدة سوف تشير إلى استعدادها للعيش مع النظام القائم إذا قبل هذا النظام قيودًا بعيدة المدى على طموحاتها النووية وأنشطتها الإقليمية. هناك دلائل متزايدة على أن النظام الإيراني قد يكون منفتحًا على مناقشة مثل هذه الصفقة، حيث كتب نائب الرئيس الجديد للشؤون الإستراتيجية في مجلة فورين أفيرز (حتى قبل أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى تفاقم موقف إيران) أن الحكومة «تأمل في مفاوضات متساوية فيما يتعلق بالاتفاق النووي - وربما أكثر». وأوضح الرئيس الجديد أن أولويته تتمثل في إنعاش الوضع الاقتصادي للبلاد.
ودعا بعض المحللين إلى التخلي عن مثل هذا الجهد الدبلوماسي واختيار القوة العسكرية عاجلًا وليس آجلًا. إن الهجوم من شأنه أن يستهدف المنشآت المرتبطة بالبرنامج النووي على أمل تدمير جزء كبير من البرنامج، أو كله وتحفيز التغيير السياسي الجذري في طهران. صحيحٌ أنه يمكن تدمير الكثير البرنامج النووي الحالي، إن لم يكن كله، أو على الأقل تعطيله، ولكن حتى هذا لن يكون حلًا دائمًا، لأن إيران اكتسبت خبرة نووية لا يمكن تدميرها بالقوة. قد تعيد أي عملية عسكرية ناجحة طهران إلى الوراء عدة سنوات، ولكنها قد تختار إعادة بناء برنامجها في مواقع أكثر تحصينًا وبعيدًا عمّا يمكن للذخائر الأميركية والإسرائيلية الوصول إليه. ومن الممكن أن تستخدم إيران مثل هذا الهجوم أيضًا ذريعةً إضافيةً لتبرير حاجتها إلى الأسلحة النووية. ولكن حتى مع إضعاف وكلائها ودفاعاتها، فإن إيران قد ترد على إسرائيل باستخدام صواريخها الباليستية التي ما تزال باقية، وضد منشآت النفط والغاز لدى جيرانها، وكثير منها شركاء إقليميون مهمون للولايات المتحدة، وضد أهداف أميركية عبر الإرهاب. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار النفط والغاز، مما سيزيد الضغوط التضخمية على الصعيد العالمي ويؤدي إلى كساد النمو الاقتصادي. ومن غير الممكن معرفة التأثيرات الداخلية لمثل هذا السيناريو في إيران. ويمكنهم بسهولة إثارة الاحتجاجات القومية والتجمع حول العلم الإيراني، أو تشجيع الاحتجاجات المناهضة للنظام. وعلى الصعيد الدولي، قد يكون مثل هذا الهجوم الوقائي مزعزعًا للاستقرار، حيث قد يستشهد به آخرون كسابقة لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد المنافسين.
ودعا آخرون إلى اتباع سياسة الضغط الأقصى التي من شأنها أن تؤدي إلى استخدام العقوبات الاقتصادية على نحو أكبر. ولكن لا يوجد شيء في تاريخ العقوبات يشير إلى أنه من المتوقع أن تحقق هذه العقوبات غايات طموحة، وبالتأكيد ليس بحلول تاريخ محدد. يمكن وينبغي أن تكون العقوبات جزءًا من سياسة شاملة، مع إدخال بعض التدابير الإضافية لزيادة الضغط على النظام، في حين أن الوعد بإزالتها قد يكون بمثابة حافز إضافي للتغيير السلوكي، بما في ذلك في مجال حقوق الإنسان والسياسة الداخلية.
إن النهج الصحيح الذي يجب على واشنطن أن تتبعه هو أن تبدأ بالدبلوماسية مع التمسك بالتهديد باستخدام القوة، ثم استخدامها إذا تقدمت إيران بأنشطتها النووية إلى ما هو أبعد من عتبة معينة، أو حاولت إعادة تزويد وكلائها بأسلحة جديدة. ويهدف هذا المزيج إلى معالجة الأولويتين الأعلى بالنسبة للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بسلوك إيران، والأولويات الأكثر عرضة للتأثير الخارجي. ومن المرجح أن يؤدي تقديم قدر من تخفيف العقوبات في مقابل ضبط النفس النووي والإقليمي إلى تعزيز آفاق النظام في الأمد القريب. ولكن من الصواب أن نضع هذا الهدف في مرتبة ثانوية مقابل أولويات أعلى.
الفرص الإستراتيجية لا تدوم إلى الأبد
لقد خلقت التطورات التي شهدتها الأشهر الخمسة عشر الماضية فرصة غير متوقعة للسيطرة على إيران. وهي فرصة لا ينبغي تضييعها. وليس هناك مفارقة هنا، حيث كان الرئيس دونالد ترامب هو الذي سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015. ولكن التفاوض على اتفاق جديد ومحسن سيكون أشبه بما فعله ترامب عندما تفاوضت إدارته الأولى مع المكسيك وكندا لاستبدال اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية باتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. ومن شأن الاتفاق الجديد مع إيران أيضًا أن يلغي الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع، وهو الأمر الذي قاومه ترامب تقليديًا.
ثمة إلحاح هنا. ومن المرجح أن تحاول إيران قريبًا لملمة شتاتها وإعادة تشكيل وكلائها في المنطقة. ومع تدمير رادعها التقليدي، قد تتوصل إيران أيضًا إلى أن السلاح النووي وحده قادر على حمايتها من إسرائيل والولايات المتحدة. قد يدوم الألماس إلى الأبد، ولكن الفرص الإستراتيجية لا تدوم إلى الأبد. وكما يعلم مؤلف كتاب فن الصفقة جيدًا، فلا بد من اغتنام هذه الفرص بسرعة.
** المقال مترجم عن فورين أفيرز، ولا يعبّر بالضرورة عن وجهة نظر عرب48