لا يزال كبار السن عندنا يحكون عن وصول جنود من قرى فلسطين إلى اليمن ومشاركتهم في القتال واستشهاد بعضهم هناك. وكنا نتساءل لماذا أرسلت الدولة العثمانية هؤلاء الشباب إلى تلك البلاد النائية وضد من حاربوا؟
قامت في اليمن ثورة ضد العثمانيين ما شكل خطورة على استمرار بقائهم في الجزيرة العربية خاصة وأن بريطانيا استولت على عدن جنوبي اليمن، وراحت تعمل على استمالة شيوخ النواحي. في شمال اليمن ظهر الإمام المتوكل على الله يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين الذي تزعم الزيدية وهي المذهب السائد في اليمن، وراح يقاتل العثمانيين طالبًا الاعتراف به حاكمًا على شمال اليمن. كانت طموحات الإمام يحيى كبيرة حيث سعى إلى قيام الدولة المتوكلية في الشمال؛ ومن ثم السيطرة على عدن وجنوب اليمن، ولكن لم يكن بمقدوره القتال على جبهتين، وكان عليه أن يختار أحد الطرفين ليكون له حليفًا، فاختار الطرف العثماني ليعقد معه اتفاقية صلح.
في 17 رمضان سنة 1329 هجرية/11 أيلول 1911 تم الاتفاق بين الإمام يحيى وبين مندوب عن الدولة العثمانية أحمد عزت باشا على عقد صلح بين الطرفين، وقد دخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ في 27 شوال عام 1329 هجرية/21 أكتوبر سنة 1911، وصادق عليه السلطان محمد رشاد في فرمان سلطاني (شاهاني) أصدره في سنة 1913. عرف هذا الاتفاق باسم صلح دعان، نسبة إلى قرية دعان القريبة من مدينة عمران التي وقّع فيها بالأحرف الأولى على الاتفاق المذكور أعلاه. يعتبر هذا الصلح انعطافًا هامًا في تاريخ اليمن حينذاك، فقد أدى إلى تهدئة الأحوال بها بعد أن كانت اليمن تعرف بأنها مقبرة الأناضول، وكانت الدولة العثمانية بحاجة لهذه التهدئة لمواجهة أطماع إيطاليا في طرابلس الغرب، والتفرغ لمشاكلها في البلقان. كما أن هذا الصلح كان منعطفًا هامًا بالنسبة للإمام يحيى، إذ كان الخطوة الأولى نحو تحقيق آماله في تأسيس المملكة المتوكلية خصوصًا أن الدولة العثمانية اعترفت بالإمام يحيى زعيمًا وحيدًا للزيدية في اليمن، ومنحته حكمًا ذاتيًا مقابل اعترافه ببقاء السيادة العثمانية على البلاد.
جاء في البند الثاني من اتفاقية دعان أنه تجري الأحكام الشرعية لكافة الدعاوى الواقعة بين الأهالي القاطنين في الأقضية والألوية، وتقام الحدود الشرعية على جميع المجرمين في المناطق بموجب أحكام المذهب الزيدي، ويتم تعيين وتبديل الحكام (القضاة) الزيديين من طرف الإمام، ثم يقوم برفع ذلك إلى الولاية، ويباشر الحكام المعينون من طرف الإمام عملهم بدون انتظار للتصديق الذي سيصل من الباب العالي. كما تقوم الحكومة بتنفيذ جميع الأحكام الصادرة من القضاة الشرعيين حتى ولو طلب المحكوم عليه استئناف الحكم الصادر في حقه لعدم اقتناعه به. وفق البند المذكور اعترف بالإمام يحيى زعيمًا للطائفة الزيدية، وحظي باستقلال ذاتي.
وجاء في بنود أخرى إعلان العفو العام في البلاد، حتى لا يُسأل أحد عن ماضيه. وأن على الدولة العثمانية حماية البلاد من أي اعتداء لدولة أجنبية.
وجاء في البنود السرية للاتفاقية المذكورة ما يلي:
1. تدفع الحكومة العثمانية للإمام يحيى مبلغ عشرين ألف ليرة سنويًا لتوزيعه على من يرى على أن يدفع المبلغ بالتقسيط كل ثلاثة أشهر قسط.
2. لا يعقد الإمام أية معاهدة مع أية دولة أجنبية.
3. إذا واجهت الإمام أية مشاكل من قبل القبائل أو غيرها فالدولة ملزمة بتقديم المساعدة سواء بالجنود، أو بالسلاح إذا طلب الإمام ذلك.
وفيما يلي نص الرسالة، التي أرسلها الإمام يحيى إلى السلطان العثماني محمد خان الخامس المعروف باسم محمد رشاد، وفيها التزام بدعم الدولة العثمانية في صراعها ضد إيطاليا ودعم الائتلاف الموقع بينه وبينها (صلح دعان):
بسم الله الرحمن الرحيم
أيّد الله دينه الحنيف المبين بحضرة سلطان الإسلام والمسلمين السلطان محمد خان الخامس سليل الأجلّة السلاطين، وعمّر بالعدل مملكته، وجعله نقمة للكافرين ورحمة للمؤمنين آمين. وإنه لما وصل إلى اليمن الميمون حضرة الشهم الماجد المتحلي من الخلال المبجلة بما يجمع لذاته جلائل المحامد أحمد عزت باشا رئيس أركان الحرب العمومية وقائد القوة اليمنية، واستقر ركابه بمدينة صنعاء المحروسة جرت بيننا وبين حضرته المخابرة فيما به يكون الائتلاف، وينقطع في هذه الديار بين الأهالي والعساكر العثمانية الخلاف مع مراعاة شرف الحكومة وشأنها المنيف والنظر إلى أحوال من عمّهم الضرر بما جرى في المدة السابقة من كل ضعيف وشريف، فكانت النتيجة حصول الاتفاق بيننا وبين حضرته على الصورة المحررة في أوراق الائتلاف المتقدمة للمرجع العالي لتصديقها وعرضها للحضور الشاهاني الأجلّ وأن تسكين الفتن والهيجان على هذه الصفة لمن موجبات الشكر في كل آن ودلائل السعادة لأهل الإيمان فهذه العريضة نائبة لتقديم الشكر عن ذلك وعن الالتفات الشاهاني التلغرافي المتلقى بما ينبغي من الإجلال والتعظيم، وإنه ليجب على كل موحّد بذل مجهوده في المعاونة بكل ما يستطاع فيما به تقوى شوكة الإسلام ويشد بأس إخوان الدين القائمين في نحر الأجانب المعتدين في طرابلس الغرب وغيرها وأهل اليمن كلهم في اهتمام بهذا الشأن والله المعين وشريف السلام مسك الختام حرر في 28 شوال سنة 1329 (21 أكتوبر 1911م)
الداعي
الإمام المتوكل على الله تعالى
يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين سلمه الله
***
خلال الحرب العالمية الأولى عملت الدولة العثمانية على قطع طرق المواصلات البحرية البريطانية، حيث جندت جيشًا كبيرًا لاقتحام قناة السويس، وأرسلت جزءًا من قواتها في اليمن لمهاجمة ميناء عدن. ولكنها فشلت في سعيها هذا، حيث انسحب الجيش العثماني إلى داخل فلسطين، وانسحبت القوة العسكرية العثمانية إلى صنعاء. ورغم أن الحرب العالمية الأولى انتهت في 11 نوفمبر 1918، إلا أنه بقيت القطعات العثمانية المرابطة في اليمن على حالها، وبقي الإمام وفيًا لاتفاقية دعان، لكنه بدأ يفاوض بريطانيا لإيجاد مخرج مشرف، وفيما يلي نص رسالة بعث بها إلى إستيورت حاكم عدن البريطاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
ختم صاج
من عبد الله المفتقر إلى الله الإمام يحيى إلى جناب المكرّم والي عدن إستيورت وفقنا الله وإياه. وصل تلغرافكم المؤرخ في 25 صفر سنة 37 في يوم وصول النقيب عبد الواحد لتأخره في البحر، وكنا نؤمل أن سيصل إلينا من جنابكم بإفادة شافية نافعة لاستقبال اليمن، وقد أبنا لكم في تلغرافنا المؤرخ 1 صفر بأن بيننا وبين الحكومة العثمانية ائتلافًا، وإلى الآن ما ورد إلينا تبليغ من الحكومة المشار إليها بالشفرة الموجودة لدينا المعدّة للمخابرة مع مقام صدارة الدولة المشار إليها، ولا ورد إلينا مأمور من الحكومة المذكورة مع وثائق رسمية ننظر منها بالإيجاب اللازم بمنشئ بيننا وبينها وقد أبنا لكم بعض ما بني عليه الائتلاف ولم نجد أدنى إفادة في تلغرافكم فيما نؤمله غير طلب إرسال القطعات العسكرية التركية وتعليق استقبال اليمن إلى الوقت المرقوم. بناءً على ذلك نؤمل من همتكم وصداقتكم بادئ الأمر استحصال القرار القطعي من الدول المفخمة المؤتلفة ومن الحكومة العثمانية المتضمن بقاء حاكمية اليمن بأيدينا كما كان بأيدي أسلافنا من قبل ألف سنة كما هو معلوم عند جميع الدول، وعلى الخصوص دولة إنكلترا وكما تشهد به التواريخ... وبعد استحصال وتبليغنا القرار القطعي إن شاء الله وحصول قناعتنا بسعادة وتأمين استقبال اليمن حكمنا نجري إيجاب ما يلزم... أما قبل إرسال القرار القطعي الدولي كما أشرنا إليه فلا يحسن تسليمه القطعات العسكرية، ولما لنا عليها من الحقوق المشمل عليه الائتلاف، وأنّا نؤمل من همتكم وصداقتكم عرض ذلك على انصاف الدول المعظمة الخادمة للعالم الإنساني المانعة كل عدوان وتجاوز سفك الدماء بغير حق ولا موجب ومثلكم للصداقة اللازمة يقدر لنا ما نطلبه ويسمح لنا بتسويته ودولة بريطانيا المفخمة توف حقوقنا، وأملنا فيها وطيد ببذلها كل إحسان إلى جانبنا، ولم نر وجهًا لاستعجال تسريح هذه القطعات النظامية مع فوات حقوقنا وعدم حصول أدنى ضرر منها على العالم الإنساني وخصوصًا على أدنى حق من حقوق الحكومة المعظمة البريطانية، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق حرر في 3 من شهر ربيع الأول سنة 337 (7 ديسمبر 1918م)
وفق اتفاقية مندورس بين الدولة العثمانية والحلفاء كان على العساكر العثمانية الموجودة في اليمن وعسير والمدينة المنورة الاستسلام للإنجليز. في لواء لحج قام القائد سعيد باشا مع ألف من جنوده بالاستسلام إلى حاكم عدن البريطاني إستيورت، فدخلها دخول الفاتحين مع تصفيق الأهالي له. قسم آخر استسلم في الحديدة والساحل، وبذلك انتهى فصل من تاريخ اليمن.
إحالات:
1.الريحاني، أمين، ملوك العرب- رحلة في البلاد العربية، الجزء الأول، الطبعة الثامنة، دار الجيل، بيروت، 1987
2.سالم، سيد مصطفى، تكوين اليمن الحديث- اليمن والإمام يحيى 1904-1948، الطبعة الرابعة، دار الأمين، القاهرة-الجيزة، 1993
3.الشامي، فؤاد عبد الوهاب علي، علاقة العثمانيين بالإمام يحيى في ولاية اليمن 1322-1337ھ/1904-1918م، مركز الرائد للدراسات والبحوث، صنعاء، 2014.
4.عباس، علي محسن سرهيد، "أثر صلح دعان على أوضاع ولاية اليمن 1911-1918"، مجلة العلوم الإنسانية، كلية التربية للعلوم الإنسانية، المجلد 13 العدد 4، كانون الأول 2022، ص 3551-3578 (العراق).
5. مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول، بحوث الندوة الدولية اليمن في العهد العثماني، المركز –الوطني للوثائق، إسطنبول ، 2011.