مستقبل القضية الفلسطينية على المحكّ، وليس مستقبل قطاع غزّة فقط، فالمطروح محاولة جديدة لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، كما يظهر في حرب الإبادة والتهجير والفصل العنصري والعقوبات الجماعية في قطاع غزّة، ومحاولة القضاء على المقاومة، ونزع سلاحها، وتهجير قيادتها، أو على الأقلّ إخراجها من الحكم وإضعافها إلى حدّ كبير. وكما يظهر في الضفة الغربية من خلال مخطّطات الفصل العنصري والضمّ والتهجير ومصادرة الأراضي واستيطانها، وتغيير مكانة المسجد الأقصى تمهيدًا لهدمه في الوقت المناسب، فضلًا عن العمل من أجل حلّ السلطة الفلسطينية أو إخضاعها أكثر وأكثر، وتفريغها من دورها السياسي، وإقامة سلطات محلّية بدلًا منها في الضفة والقطاع، أو "تجديدها" لإعادة تأهيلها لتفقد أيّ صفة تمثيلية وطنية، وأيّ قدرة على التحوّل دولةً فلسطينية. وكذلك ما يظهر في مخطّطات تصفية قضية اللاجئين، من خلال الدعوة إلى حلّ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وتدمير المخيّمات وتهجير سكّانها في الضفة والقطاع، نظرًا لما تمثّله من تجسيد لحقّ العودة والهُويَّة الوطنية، وما تشكّله من قواعد للمقاومة الوطنية.

ويضاف إلى ما تقدّم مواصلة العمل لطمس الهُويَّة الفلسطينية لأصحاب البلاد الأصليين داخل إسرائيل، من خلال الإمعان في تهميشهم عبر إقرار قوانين وتنفيذ سياسات عنصرية، وتفريقهم وشرذمتهم عبر تغذية العنف والجريمة والدعارة والمخدرات، وتشجيع الهجرة لمنع أيّ تأطير مشترك، وأيّ دور يمكّنهم من انتزاع حقوقهم الفردية والقومية، وتجسيد هُويَّتهم الوطنية، كما يتواصل السعي إلى استكمال الاتفاقات الإبراهيمية بتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية، على أمل أن تتبعها بقية الدول العربية والإسلامية، التي لم تطبّع علاقاتها مع إسرائيل لاستكمال تغيير الشرق الأوسط، وتنصيب دولة الاحتلال بوصفها مركزًا مهيمنًا على الإقليم برمّته، حتى يتاح للولايات المتحدة الانسحاب من المنطقة للتفرّغ لمنافسة الصين، وغيرها من الدول التي تتقدّم على مختلف المستويات، خصوصًا على الصعيد الاقتصادي، وتحقيقًا لشعار ترامب "أميركا أولًا"، أحد أركان فلسفته السياسية.

وتتجلّى السياسة الإسرائيلية في ظلّ حكومة اليمين واليمين المتطرّف (الديني والسياسي) المدعومة بشكل كامل من إدارة ترامب، بالتركيز، في هذه المرحلة، في حسم الصراع من خلال حسم مصير الضفة الغربية وقطاع غزّة. ولم يعد صحيحًا (على الأقلّ بعد طوفان الأقصى)، أن تركيز العدوان الإسرائيلي ينحصر في الضفة الغربية، بل أُدخِل قطاع غزّة إلى دائرة المخطّطات المطروحة للتنفيذ، بدليل إعادة طرح مسائل إعادة احتلال القطاع واستيطانه، وإبقاء السيطرة الأمنية عليه، وطرح التهجير من حكومة نتنياهو، وهو الهدف الأعلى من حيث الأهمّية لحرب الإبادة الذي أخذ زخمًا كبيرًا بعد أفكار ترامب عن تهجير أهل القطاع، وبناء "ريفييرا الشرق الأوسط".

في هذا السياق، يكتسب توفير مقومات الصمود والبقاء البشري الفلسطيني في أرض فلسطين أهمية كبرى، بل هو الأولوية المركزية التي يجب أن يخضع لها كل شيء، بما في ذلك المقاومة، لأن الصمود وإبقاء القضية حيّةً وإحباط مخطّطات التهجير والضمّ والحفاظ على الهُويَّة الوطنية والكيان الوطني الواحد أعلى وأكثر أهميةً وأكثر أشكال المقاومة فعّاليةً، وقد يستدعي ذلك هدنةً طويلة الأمد، والتركيز في أشكال المقاومة والمقاطعة الشعبية السياسية والقانونية والإعلامية الشعبية السلمية، والعمل لعزل إسرائيل ومحاسبتها، وفرض العقوبات عليها، والدعوة إلى طردها من الأمم المتحدة أو تجميد عضويتها على الأقلّ، وإعادة القرار الأممي باعتبار الصهيونية أعلى أشكال العنصرية التي أقرّته الأمم المتحدة عام 1975، وتراجعت عنه بموافقة عربية، جريًا وراء أوهام السلام، عشيّة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، بحجّة توفير الظروف لإنجاح عملية السلام.

إحباط المخططات الأميركية والإسرائيلية ممكن جدًا شرط تحقيق المستلزمات الآتية: أولًا، بلورة رؤية فلسطينية جديدة تأخذ الدروس والعبر من التجارب السابقة ومن السياسات التي أوصلتنا إلى الحضيض الذي نعيش فيه، تنبثق منها إستراتيجيات جديدة وقيادة جديدة تدرك أهمية الوحدة بوصفها قانون الانتصار لأيّ حركة تحرّر وطني، وأن المعركة واحدة في الضفة والقطاع والداخل وفي جميع التجمّعات الفلسطينية، وتستوجب عنوانًا واحدًا سياسيا باعتبارها قضية تحرّر وطني؛ قضية حقّ تقرير المصير لكلّ الشعب الفلسطيني وليست قضيةً إنسانيةً، إذ تقتصر المفاوضات الجارية منذ "طوفان الأقصى" على قضايا إنسانية، مثل إدخال كيس طحين هنا وإزالة حاجز هناك، بينما لا بدّ أن تركّز في (وتتمحور على) إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع، وإنجاز الاستقلال التام لدولة فلسطين، التي تعترف بها 150 دولة، باعتبار ذلك الهدف المركزي في هذه المرحلة، بالترابط مع الحفاظ على الحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية والسياسية. وإذا كانت الوحدة الكاملة متعذرة على المدى المباشر لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذا المقال، فيمكن الشروع في أشكال من الوحدة الميدانية وتوسيع القائم منها، وتنسيق الكفاح والجهود والأعمال لإحباط المخطّطات المعادية، التي تستهدف الجميع، القضية والشعب والأرض ومختلف القوى من دون تمييز بين فلسطيني وآخر، بين معتدل ومتطرّف، كما تستهدف وحدانية التمثيل التي تجسّدها منظمة التحرير وسلطة "حماس" وسلطة محمود عبّاس. وحتى تؤثر الخطوات التنسيقية والتوافقية الجديدة المطلوب تنفيذها مهما كانت حدّة الخلافات، يجب أن تشمل تحديد الأهداف والتصدّي للمخاطر المشتركة، والاتفاق على سلطة واحدة وسلاح واحد وقرار واحد بما يخصّ السياسة والحرب، استنادًا إلى برنامج وطني كفاحي، وتشمل التوافق الوطني معيارًا لاتخاذ القرارات إلى حين الاحتكام إلى الشعب بالانتخابات على المستويات والقطاعات كلّها، عندما يتوافر الوقت المناسب بسقف زمني محدّد.

ثانيًا، العمل لكي تأخذ القمّة العربية موقفًا يمثّل الحدّ الأدنى من الدفاع عن الحقوق والأهداف والمصالح العربية، وإذا كان توقع أن تكون القمّة العربية بمستوى اللحظة التاريخية الراهنة مبالغًا فيه كثيرًا بعدما أن عجزت طوال حرب الإبادة عن وقفها، أو حتى عن تدفيع إسرائيل وشركائها أثمانًا غالية. فالقمّة لن تجابه الولايات المتحدة والثور الهائج ترامب كما هو مطلوب، ولكن، يمكن على الأقلّ عدم الاستسلام له، لأن الاستسلام سيساعد في تصفية القضية الفلسطينية، وسينهي ما تبقّى من مصالح وحقوق وأمن عربي، ويقضي على أيّ إمكانية لنهوض مشروع عربي، وهذا يقتضي في الحدّ الأدنى اتخاذ موقف ممانع، غير مجابه ولا مستسلم، يربط بين وقف حرب الإبادة والانسحاب التام من قطاع غزّة، وضرورة الالتزام بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بكلّ مراحله وبنوده؛ وبين إعادة الإعمار، ودعم تشكيل حكومة وفاق وطني، والالتزام بإطلاق عملية سياسية تبدأ بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها القدس، والتركيز في إنهاء الاحتلال، وليس الحديث عن مسار سياسي يؤدّي إلى دولة فلسطينية، فضلًا عن رفض التطبيع خصوصًا من دون انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي العربية الفلسطينية واللبنانية والسورية المحتلة. ما دون ذلك، فإنَّ الاقتصار على التركيز في تغيير الفلسطينيين وتهجيرهم قسرًا أو طوعًا، وسحب سلاح المقاومة ونفي قيادتها وتجديد السلطة وخلق أشكال جديدة للحكم في قطاع غزّة تُعمّق الانقسام وتزيده انقسامًا؛ سيشكل استسلامًا ومحاولةً للاسترضاء لن يقبلها على الأغلب حكام واشنطن وتلّ أبيب، الأمر الذي سيفتح شهيتهم نحو طلب تقديم مزيد من التنازلات العربية، وصولًا إلى الاستسلام.

ثالثًا، إقامة جبهة فلسطينية عربية إسلامية إنسانية على امتداد العالم كلّه، لإنقاذ العالم من أخطار اليمين المتطرّف الأميركي والإسرائيلي، لا تستند إلى مخاطر السياسة الاستعمارية الأميركية الإسرائيلية على الفلسطينيين، وإنما على أنها تلحق الضرر حتى بحلفاء الولايات المتحدة وبصورتها وتاريخها ومستقبلها، وتهدّد الأمن والاستقرار والسلام والحرّية والعدالة والمساواة والديمقراطية في العالم كلّه. فالقضية الفلسطينية قضية تحرر وطني، وهي عادلة ومتفوقة أخلاقيًا وتحرّرية إنسانية. ويمكن أن تجمع أفرادًا وتجمّعات وقوى ودولا على امتداد العالم، وتكون محورًا لكلّ قوى التحرّر والتقدّم والعدالة والديمقراطية والمساواة، وستكون قادرةً بعد السقوط الأخلاقي والسياسي الأميركي والإسرائيلي على تغيير العالم.