لم تكن مشاهد الدموع والفرح التناقض الوحيد في أول ساعات ما بعد الحرب الدامية في قطاع غزة، التي قفلت أم الحروب، قضى خلالها الغزيون 467 يوماً في قبضة القتل والدمار والنزوح والتشريد، فرغم الحزن الشديد على فقدان الشهداء والمنازل وكل مقومات الحياة، بفعل الحرب الطاحنة، إلا أن ليلة من الفرح أطبقت على قطاع غزة، بوقف الحرب.
وأقفل «اتفاق الدوحة» 14 شهراً من الحرب والدمار، إذ أفضت الجهود السياسية التي قادتها قطر، بالتعاون مع رعاة المفاوضات السياسية، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وإبرام صفقة تبادل الأسرى الثانية، ما أوقد شموع الفرح في سائر أرجاء قطاع غزة، فيما بدا وكأنه «مراسم وداع» للحرب الطاحنة.

وفوق ركام المنازل، وعلى وقع آخر الرشقات الصاروخية، والقصف الاحتلالي الهستيري، في سياق ما يعرف عادة في أي اتفاق لوقف إطلاق النار بـ»سباق الضربة الأخيرة» انفجر الشارع الغزي بموجة احتفالات عفوية، عمّت مخيمات النازحين، وامتدت إلى قلب غزة، وتخللها إطلاق للنار في الهواء والمفرقعات النارية، بينما جابت المسيرات شوارع غزة، مرددة الهتافات الممجدة للمقاومة، مشيدة بصمودها ورافعة شارات النصر.
وعلى حطام المواجهة في بيت حانون تعاكست رياح الانتصار مع الدمار، لكن فرحة النازحين بالعودة إلى منازلهم، طغت على كل شيء، فما إن انبلج قرار وقف إطلاق النار، حتى عمت الفرحة بانتهاء العدوان الدموي، وكل شيء في قطاع غزة كان يشي بأن الحرب الأكثر توحشاً في تاريخ الشعب الفلسطيني، توارت أخيراً خلف الركام.


    - فرحة طاغية
«فرحتنا لا توصف، سنعود إلى بيوتنا ونعيد إعمارها، والحمد لله الذي كتب لنا الحياة حتى نعيش فرحة إنهاء الحرب» قال رمزي أبو عون، منوهاً إلى فرحة طاغية غمرت قلوب الأطفال، بانتهاء هذا الكابوس».
وأضاف لـ «الشرق»: «لأول مرة منذ 14 شهراً، سوف ننام هذه الليلة دون هدير الطائرات، وأصوات القذائف، كانت حرباً هستيرية أحرقت الأخضر واليابس.. شكراً لدولة قطر التي لم تتركنا للحظة، وضاعفت من جهودها السياسية حتى وقف الحرب».
بينما عبّر أحمد الحوراني عن فرحة غامرة في مخيم جباليا، على وقع مفرقعات نارية، أطلقها ابتهاجاً بوقف حرب الإبادة والتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وقال بينما امتزجت فرحته بحرقة على فقدان ثمانية من أقاربه في الحرب: «تعودنا أن نفرح رغم الألم، وأن نبتسم رغم الجراح.. غزة باقية والاحتلال إلى زوال».
وأوضح لـ «الشرق»: «هذه الحرب كانت الأكثر إيلاماً، لكن الكيان اقتنع أخيراً أنه لن يحقق أهدافه التي أعلنها منذ اليوم الأول، ورضخ أخيراً، والشكر لدولة قطر التي ألقت بثقلها ولم تدخر جهداً، لوقف هذه الحرب الدامية».







    - ثقل سياسي قطري
فيما بدا وكأنه «خطاب النصر» أكد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحية، أن معركة طوفان الأقصى كانت منعطفاً مهماً في تاريخ القضية الفلسطينية، وأن المقاومة الفلسطينية أفشلت أهداف الاحتلال المعلنة والمستترة، مشيداً بصمود الشعب الفلسطيني وبسالة المقاومة، اللذين أفشلا مخططات الكيان.
وثمّن الحية الجهود المضنية التي بذلتها قطر بالشراكة مع مصر والأطراف الراعية للعملية السياسية، والتي أفضت إلى هذه اللحظة التاريخية، ووضعتنا أمام مرحلة جديدة، هي مرحلة البناء والإعمار.

وأشاد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واصل أبو يوسف بالجهود السياسية التي أفضت إلى وقف الحرب، وقال في تصريحات لـ «الشرق»: «التدخلات السياسية التي قادتها دولة قطر، بالشراكة مع مصر وأمريكا، أنضجت اتفاق وقف إطلاق النار، وهذا النجاح يسجل للدبلوماسية في فرملة عجلة الحرب، والحيلولة دون وصولها إلى حرب شاملة وصدام مستمر».
واستناداً إلى القيادي الفلسطيني مصطفى البرغوثي، فإن وقف الحرب الأسوأ في تاريخ الفلسطينيين ارتكز على أمرين اثنين: الأول: صمود المقاومة الفلسطينية وأهل غزة، رغم الغارات الوحشية التي حولت أرض غزة إلى مستودع أسحلة، والثاني: الحراك السياسي الذي قادته قطر، وشركاء العملية السياسية، مشدداً على أن الصورة التي خرج بها الاتفاق ما هي إلا تثبيت لقواعد الاشتباك.


    - وداعية الحرب
بينما يرى المحلل السياسي رائد عبد الله، أن كيان الاحتلال جاء مرغماً إلى التوقيع على وقف إطلاق النار، بفعل صمود المقاومة، وفشله الذريع في تحقيق أهدافه، مشدداً: «الاحتلال تراجع من الهجوم للأهداف العسكرية والقضاء على حركة حماس وذراعها العسكرية، إلى الدفاع المشوب بالإحباط عن أهدافه السياسية وحفظ ماء الوجه».
وأياً كانت بنود الاتفاق، أو مراحل تنفيذه، فما يهم الغزيين، أنهم كتبوا وداعية الحرب، وإن على أنقاض منازلهم، وعلى وقع حزام ناري، تسارع قبل سريان وقف النار، في محاولة يائسة للكيان إظهار صورة «المنتصر» وكأنه صاحب الكلمة الأخيرة.
وسيظل هذا الصمود الأسطوري لأهل غزة، في هذه النسخة المروعة من الحرب، محفوراً في الوجدان لأجيال وأجيال، فغزة انتصرت بدماء 46 ألف شهيد من أبنائها، بينما الكيان الذي فشل في التقاط صورة الانتصار، أخذ يبحث عن صورة باهتة لـ»عدم الانكسار».