يعتبر شهر رمضان فرصة لكل مسلم للتسابق في فعل الخيرات من أجل التقرب إلى الله، وعلى هذا المنوال سار السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين، فلم يكن شهر رمضان بالنسبة لأولئك النفر الكريم مجرد شهر من شهور السنة، بل بلغ في قلوبهم مكانة خاصة كانت جلية من خلال استعدادهم لاستقباله والاحتفاء بمقدمه وتضرعهم إلى الكريم المنان أن يبلغهم إياه بتمام العافية، لما يدركون من عظم مكانته ومنزلته عند الله عز وجل، ولينالوا من أفضاله ومكارمه لا سيما وأنه لا يتكرر إلا مرة في العام.
وفي سياق الاستعداد لشهر مضان، فإن الدعاء ببلوغه والاستعداد لاستقباله سنة عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال نبينا صلى الله عليه وسلم في استعداده لرمضان فقالت: (ولم أره صائما من شهر قط، أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله، وأحيانا كان يصوم شعبان إلا قليلا)، وهي ذات السنة التي استنها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم استعدادا لاستقبال شهر القرآن، فقد ورد في صحيح مسلم من قول معلى بن الفضل رضي الله عنه: كانوا "يعني الصحابة" -رضوان الله عليهم- يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم. وقال يحيي بن أبي كثير: "كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، اللهم سلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا".
ويتفق أهل العلم والصلاح من الدعاة أن من أهم الأمور لاستقبال شهر رمضان، النية الخالصة من حسن الاستعداد والتأهب لرمضان وعقد العزيمة على إعماره بالطاعات وزيادة الحسنات والأجور، وهجر الآثام والسيئات وتوظيف كل الجهد رغبة في نيل رضا الله الواحد المتعال، ويرى العلماء أن هذا العزم ضروري لأن العبد لا يدري متى يحين أجله، وينال بهذا العزم الأجر والثواب وإن لم يقم بالعمل، وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة)، وقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى، وهو حديث متفق عليه.
ومن الاستعداد الروحي للمسلم لاستقبال الشهر الكريم، كما يقول العلماء، التوبة الصادقة، وهي واجبة في كل وقت ومن كل ذنب، ولكنها في هذا الحين أوجب وألزم، لأن المسلم مقبل على موسم خالص للطاعة والعبادة، وأن صاحب المعصية لا يوفق للطاعة، ولا يؤهل للقرب من الله عز وجل، فإن الذنوب تورث الحرمان وعاقبتها الخذلان، ومن أجمل العبارات التي وردت في الأثر في هذا الجانب (إن قيد الذنوب يمنع عن المشي إلى طاعة الرحمن)، و(أن ثقل الذنوب يمنع الخفة للخيرات والمسارعة في الطاعات)، فتجد القلب في ظلمة وقسوة وبعد وجفوة عن الله، فكيف يوفق مثل هذا القلب للطاعة؟ أو كيف يدعى للمناجاة؟ فصاحب المعاصي المصر عليها لا يوفق إلى الطاعة، فإن اتفق فمشقة لا حلاوة فيها ولا لذة ولا صفوة ولا أنس ولا سعادة، ومن الأثر، عندما قيل للحسن البصري "لا نستطيع قيام الليل، قال قيدتكم خطاياكم". وقال الفضيل بن عياض: "إذا كنت لا تستطيع قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محبوس قد قيدتك ذنوبك".
ويتفق العلماء أن كثرة الإلحاح والتضرع إلى الله عز وجل بالقبول وأن يجعلك ممن تقبل توبتهم قبل حلول رمضان وأن يكتبك في آخره في قائمة العتقاء من النار من الأمور المطلوبة، إن علامة الصدق تتمثل في كثرة الإلحاح ودوام الطلب وكثرة الاستغفار، فحري بالمسلم أن يرفع يديه ويناجي ربه متوسلا إليه قبول توبته.
وينبه العلماء إلى أن من أهم وسائل استعداد المؤمن لشهر رمضان اهتمام المسلم بوقته، فالوقت هو الحياة، وهو رصيد المسلم المالي الذي يتاجر فيه مع الله التجارة الرابحة في دنياه وأخراه، وتطلب به السعادة ولذة العيش، فكل جزء يضيع من وقتك سدى بلا عمل صالح هو فقد للعبد من راحة باله وسعادته، وكل يقدر بقدره، ويقول أحد الصالحين: "ينبغي على الإنسان أن يعرف شرف وقيمة وقته فلا يضيع فيه لحظة في غير قربة أو بر، إن الإنسان إذا أدرك قصر وقت رمضان، علم أن مشقة الطاعة سرعان ما تذهب وسيبقى الأجر والثواب من انشراح القلب وانبساط الأسارير وفرحة العبد بطاعة الرب سبحانه، فكم من مشقة في طاعة مرت على الإنسان فذهب نصبها وبقي ثوابها عند الله تعالى. وكم من ساعات لهو ولعب ذهبت وانقضت متعتها وبقيت تبعتها".

ويأتي مقصد التقليل من تناول الطعام قبيل دخول الشهر الفضيل، كواحد من أهم مقاصد الصيام وهي التعود على تقليل الطعام، بهدف إعطاء المعدة فرصة للراحة والتجديد، وفي ذات الوقت يمثل ذلك مساحة لإعطاء النفس فرصة للطاعة، فكثرة الطعام هي التي تميت القلوب وتثقل الطاعة على النفوس، فمن رغب في الاستمتاع بصلاته فلا يكثر من الطعام، ويقول أهل العقل والنظر، إن قلة الأكل توجب رقة القلب، وقوة في الفهم، وانكسارا للنفس، مثلما أنها تضعف الغضب والهوى في النفس البشرية.
وفي ذات الإطار يوصي أهل العلم والمعرفة الشرعية بأن من أفضل الأعمال التي يتهيأ بها المسلم لشهر رمضان، تعلم أحكام فقه الصيام وآدابه، حتى يتم الإنسان صيامه على الوجه الذي يرضي الله سبحانه، وينال بذلك الأجر والثواب والحصول على الثمرة المطلوبة وهي التقوى، وكم من صائم ولا صيام له لجهله بشروط الصيام وآدابه وما يجب عليه القيام به، وكم من شخص وجب عليه الفطر، لرخصة مرض أو لسبب شرعي، ولكنه يصوم فيأثم بصيامه، فلابد من تعلم فقه الصيام وأحكامه، وهذا واجب وفرض على كل من وجب عليه الصيام.
ويقول العلماء إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصوم شعبان إلا قليلا، ويعتبرون أن ابتدار الصيام قبل حلول شهر رمضان ضروري لكي تتعود النفس على الصيام حتى إذا جاء رمضان كانت مستعدة بلا تعب يحول بينها وبين العمل ويحرمها من استدامة التعبد، مثلما أن القيام يعد سنة عظيمة تزكى القلوب، وتهذب الأخلاق، وهي جهاد عظيم للنفس، وعمل شاق، لا يستطيعه إلا القليل من الرجال، والقانتات العابدات من النساء، وهو منهج وعمل الصالحين من قبل، وهو كذلك وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد)، فإن تعويد النفس على قيام الليل قبل رمضان وبعد رمضان، يعد أمرا ضروريا، ففيه من الأسرار ما تنفتح به مغاليق الأبواب المؤصدة والقلوب الغافلة، فبه تتنزل الخيرات والبركات ومن الفتوحات ما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما أن كثرة تلاوة القرآن الكريم خلال شهر رمضان شهر القرآن، مزية خاصة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتدارس القرآن الكريم مع سيدنا جبريل عليه السلام في رمضان، وذلك في كل ليلة، كما في حديث ابن عباس، فقد كان جبريل يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل سنة في رمضان وذلك في كل ليلة فيدارسه القرآن، فيعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل القرآن لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وفي لفظ آخر: (فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
ومن الأعمال المحببة، والتي هي من أصل العبادة كما يقول العلماء، التسابق والجدية في الخيرات، كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)، (آل عمران الآية133)، كما قال سبحانه: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، (الحديد الآية21)، وفي الحديث النبوي: (سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله! قال "الذاكرون الله كثيرا، والذاكرات).
ويقول علماء الفقه، إن الصيام يمثل حالة من السمو الروحي لا يبلغها إلا من يتأمل في حكمة الله من وراء هذه الفريضة، كما أن الصيام يعتبر أعلى تعبير عن الإرادة أي إرادة الفعل بكامل الحرية، ولا يعرف غير الصيام فريضة توسع الصدر وتقوي الإرادة والعزيمة، وتزيل أسباب الهم وترتقي بصاحبها إلى أعلى المراقي، فيكبر المرء في عين ذاته، ويصغر حينها كل شيء أمام عينيه، ويجتهد المسلم في التعبد والدعاء والقيام بصالح الأعمال خلال الشهر الفضيل، حتى يكون من أهل الصيام الحق والقيام الصدق، لينال الجائزة الكبرى، بغفران ما تقدم من الذنوب وما تأخر في أول الصيام، وأن يبلغ الرحمة في وسطه، وأن يجعله الله في آخر رمضان من عتقائه من النار.