في قلب منطقة الدفنة، ينبض مجلس عبدالله صادق بروح الماضي وحيوية الحاضر، ليكون منصة ثقافية واجتماعية تستقطب الشباب القطري المتعطش لمعرفة تراث وطنه وتاريخه العريق. هذا المجلس ليس مجرد مجلس، بل هو منبر حيّ يعيد إحياء الذاكرة الشعبية، ويعزز الوعي بالهوية الوطنية، خصوصاً في نفوس أولئك الذين وجدوا في التراث والآثار لغة انتماء وسبيل فخر.
ولعل سرّ هذا الشغف المتقد يعود إلى نَفَس البيت نفسه، حيث يواصل الابن محمد عبدالله صادق حمل الشعلة. كباحث في متاحف قطر، نذر نفسه لخدمة التراث القطري، وجمع مقتنيات ووثائق أرشيفية نادرة عن التجارة والحياة الاقتصادية في قطر قديماً، إضافة إلى مؤلفاته التي تتوزع بين ومضات من تاريخ الدوحة، ولمحات عن التعليم، وتوثيق العملات القديمة، في سلسلة من الإصدارات التي تمزج بين التوثيق والشغف.

ليست المجالس في قطر محض لقاءات اجتماعية، بل باتت ورشاً ثقافية تحفّز الأجيال الجديدة على الاهتمام بالآثار وتوثيق التراث الشفهي الذي يشكّل ذاكرة الأمة. وفي هذا السياق، كان لقاؤنا مع ابن محمد بن جاسم الخليفي، رائد علم الآثار في قطر، الذي كرّس عمره للتنقيب والترميم، ورفد الساحة الثقافية بمؤلفات مهمة عن العمارة التقليدية والهوية العمرانية. مكتبته، بما تضمه من كنوز معرفية نادرة، تحكي سيرة رجل وهب نفسه لوطنه وتاريخه.
وخلال ليالي شهر رمضان المبارك، زارت الشرق هذا المجلس العابق بعبير الزمن الجميل، وكان لنا شرف السحور القطري التقليدي، حيث تمتزج النكهات الأصيلة برائحة الماضي، وتُستعاد الحكايات في حضرة من حفظوها لترويها الأجيال.






    - الباحث الأثري محمد صادق: التقنية غيّرت ملامح الشهر الفضيل
في مجلس العائلة العامر بالدفنة، التقت الشرق بالباحث في قسم الآثار محمد عبدالله صادق، الذي حملنا في حديثه إلى أجواء رمضانية عابقة بالروحانيات والحنين، متنقلاً بين زمنين: تسعينيات القرن الماضي وذاكرة الرعيل الأول ممن عاشوا زمن الأربعينيات.


رمضان التسعينيات... روحانية وسكينة
يقول محمد صادق: "أنا عاصرت جيل التسعينيات، وتواصلت مع من سبقهم، فاستمعت إلى وصفهم لرمضان أيام زمان، الذي كان مختلفًا في كل شيء. كانت الأجواء روحانية بشكل كبير، والنفسية مرتاحة، والقلب منشرح. تكثر فيه قراءة القرآن الكريم، وختماته تمتد طوال الشهر. الناس يحرصون على أعمال الخير، وأداء الصلوات في وقتها جماعة في المساجد، ويتهيأون لصلاة التراويح بروح حماسية. وكنا نحب تناول الكباب المشوي من البائعين في رمضان، كان له طعم خاص لا يُنسى".


التحول الكبير في الألفية الجديدة
ويتابع متأملاً في الفروقات بين الماضي والحاضر: "حدث فرق كبير بين رمضان التسعينيات ورمضان بعد الألفين، حيث جاءت موجة التطور التكنولوجي، وظهرت القنوات الفضائية، ثم طغت وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد اليومي. رمضان لم يعد كما كان، حتى في تفاصيله الصغيرة."


ذكريات القرنقعوه وتفاصيل الجيران
وعن طقوس الطفولة، يقول محمد مبتسمًا: "كنت أشارك في رقع القرنقعوه مع أقراني في الفريج، وأتذكر أنني شاهدت القرنقعوه في الخور وأم صلال، وكانت تختلف لأنها تقام نهارًا. ولا أنسى مشهد 'الجِسام'، تبادل الأطباق بين الجيران بعد صلاة العصر، خاصة الصحون التقليدية القديمة (الكابات) التي كانت تزيَّن بالأكل بطريقة مرتبة وجميلة. وكانت والدتي – رحمها الله – تكلفني بهذه المهمة، وكنت أفتخر بها".


جلسة مع كبار القدر
ويسترجع الباحث واحدة من أحب الجلسات إلى قلبه، قائلاً: "حظيتُ بجلسة مع كبار السن الذين أسميهم (كبار القدر)، واستمتعت بسوالفهم عن رمضان منذ عام 1940. لديهم طريقة جميلة في وصف الأطعمة التقليدية، والصحون، وأجواء الإفطار. كنت أُسرّ بسماع رواياتهم، وأستشعر عبق الماضي الذي حملوه معهم".


الكساد والحرب... والكوتا البريطانية
ومن بين القصص التي حفرت أثرًا في ذاكرته، يتوقف محمد عند فترة الحرب العالمية الثانية، قائلاً: "حدثوني عن الكساد الذي رافق الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، حيث قامت المستشارية البريطانية في دول الخليج، والتي كانت لها اتفاقيات مع بريطانيا، بتوزيع بطاقات تموينية تُعرف بـ(الكوتا)، وكانت كل دولة تحصل على حصة من المواد الأساسية مثل التمر والعيش والقمح والقهوة والشاي. وقد اهتم نائب الحاكم الشيخ حمد بن عبدالله آل ثاني بالأمر، فأصدر توجيهاته إلى كبار التجار للإشراف على توزيع الحصص على الأهالي، بما يضمن العدالة والإنصاف".


البدايات.. تأسيس الدولة وتنظيم أركانها
وفي حديثه عن مراحل بناء الدولة، يشير محمد عبدالله صادق إلى أن النواة الأولى لتأسيس قطر الحديثة بدأت في عهد المؤسس الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني، حيث تم وضع اللبنات الأساسية لتوطيد أركان الدولة.
أما عهد الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني، فقد شكّل مرحلة مهمة من التنظيم الإداري، حيث شهدت الدولة بدايات التنظيم في مجالات الأمن، والقضاء، وتنظيم الغوص على اللؤلؤ، وإنشاء الجمارك.
ويضيف: "كان للشيخ عبدالله مستشارون في كل اختصاص، ومنهم الشيخ إبراهيم الأنصاري، الذي تولّى القضاء في الخور، المدينة الثانية بعد العاصمة الدوحة، وقد أهداه الشيخ عبدالله بن جاسم سيفه الخاص، تقديراً لدوره."


تعليم البنات.. ولادة عصر جديد في 1955
ويعود صادق إلى نقطة محورية في تاريخ قطر، وهي بداية تعليم البنات، قائلاً: "رغم التحديات، إلا أن صاحب السمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني – وكان حينها رئيساً للمعارف – أطلق شرارة تعليم البنات عام 1955، حيث بدأت أولاً من خلال حلقات تحفيظ القرآن الكريم على يد آمنة محمود، ثم افتُتحت أول مدرسة رسمية للبنات في مشيرب عام 1956 وسُمّيت 'بنات الدوحة'، وكانت آمنة أول مديرة لها."
كما أُسست مدرسة "بنات الخور" عام 1957، وهي من أوائل المدارس التي استهدفت تعليم الفتيات في قطر، وكانت المدارس حينها تُقام في بيوت مستأجرة من الأهالي. وتتابع التوسع التعليمي في هذا المجال بافتتاح مدارس في أبو ظلوف والريان وأم صلال، حتى عام 1961.
ثم انطلقت مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي للبنات، وتم تأسيس "مدرسة دار المعلمات" لتأهيل معلمات قطريات، في خطوة رائدة على مستوى التعليم النسائي في الخليج.


الشيخ ابن مانع ومكتبة نادرة أصبحت متحفاً
ويكمل الباحث حديثه بمحطة تاريخية لافتة، عن القاضي الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع، الذي امتلك مكتبة ضخمة وثمينة في منزله، تضم كنوزاً من الكتب والمخطوطات النادرة، خاصة تلك التي تتعلق بقطر ووقفيات الشيخ بن مانع.
وقد تم ترميم بيته وتحويله إلى متحف يضم أغلب مقتنياته، تكريماً لإرثه الثقافي والديني. ويقول محمد: "أغلب كتب الشيخ ابن مانع طُبعت على نفقة خليل الباكر في الهند في عشرينيات القرن الماضي، كما احتفظ الشيخ بمراسلات ووثائق مهمة منذ قدومه إلى قطر عام 1913 وحتى 1938، وهي الفترة التي شهدت تأسيس المدرسة الأثرية التي تُعدّ من أوائل الصروح التعليمية في البلاد".





مصحف نادر طُبع في فلسطين
ومن بين الكنوز التي توصل إليها الباحث محمد عبدالله صادق خلال دراسته للمصاحف والمطبوعات الدينية القديمة، يشير إلى اكتشاف لافت: "وجدتُ أن الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني – رحمه الله – كان يطبع المصاحف على نفقته الخاصة منذ عام 1957 وحتى وفاته عام 1974، ولم يكن يكتب على غلافها (على نفقة الحاكم)، بل كان يُفضّل التواضع والنية الخالصة."
ويتابع: "طُبعت مصاحفه في باكستان ولبنان، ولكن النسخة الأندر وُجدت في فلسطين، حيث طبعها محمد زهير الشاويش، وهو أيضاً من ترجم كتبه. كما طبع كتباً في المكتبة السلفية للشيخ محمد رشيد رضا، وكان يوزّعها على طلاب المدرسة الأثرية وبعض علماء الشريعة، لندرة النسخ."


مؤلفات توثّق الذاكرة
وعن مسيرته في التأليف، يقول محمد: "قبل أن أخوض في تأليف الكتب، كنت أكتب بشكل منتظم في مجلة الريان القطرية تحت زاوية (إطلالة من ماضي قطر)، وذلك لمدة عشر سنوات بين 2010 و2020، ثم جاءت مرحلة التأليف، حيث صدر أول كتاب لي عام 2016 بعنوان (إطلالة من ماضي قطر)."
وتوالت بعدها الإصدارات: العملة والاقتصاد قديماً في قطر – 2017 - لمحات عن التعليم والمكتبات قديماً في قطر – 2018- ومضات قديمة من الدوحة- العملات في قطر – 2024
ويضيف: "حالياً لدي كتاب جديد قيد الطباعة."


من فريحة إلى اليونسكو
ويختم محمد حديثه بإطلالة على عمله الميداني كباحث في قسم الآثار بمتحف قطر منذ عام 2005، قائلاً: "شاركت في عدة حفريات أثرية داخل قطر وخارجها. من أبرز المواقع التي شاركت فيها: فريحة، والزبارة، والدروازة في عريده، كما شاركت ضمن الحفرية العالمية للآثار بتنظيم اليونسكو في موقع الزبارة عام 2016. كما حضرت مؤتمرات ومعارض عديدة متخصصة في علم الآثار داخل دول مجلس التعاون".






     - جاسم محمد الخليفي: أحنّ لماضينا الجميل ورمضان شغف ننتظره
في حديثه لـ الشرق، يسترجع جاسم محمد الخليفي ذكرياته الرمضانية التي حملها من الطفولة في فريج الخليفات، حيث يقول: "وُلدت في فريج الخليفات بمنطقة شرق، لكن لم أُدرك أجواء رمضان هناك بسبب صغر سني وهدم البيوت في تلك الفترة، فانتقلنا إلى فريج الخليفات الجديد في الدفنة، وهناك بدأت أتعرف على طقوس رمضان التي كانت تبعث في النفس البهجة، وتنتظرها الناس بفارغ الصبر."


اللمة الرمضانية وذكريات الطفولة
ويتابع قائلاً: "رمضان شهر مختلف عن كل الشهور، هو شهر الخير والمغفرة والرحمة. فيه تكثر قراءة القرآن، وتقام الختمات، وتُعزز صلة الأرحام. أكثر ما كان يسعدني هو لمة العائلة على مائدة الإفطار في بيت الوالدة – لها رمزية عظيمة عندنا لأنها تجمع الأسرة كلها."
وعن ذكريات الطفولة، يقول: "كنا نلعب بعد الفطور الخشيشة ونركب السياكل في الحي، وحين كبرنا صرنا نشارك في الدورات الرمضانية التي تُقام في الفرجان. أما القرنقعوه، فكان لها طابع خاص، ننتظرها بشوق، وكنت أتنافس مع أصدقائي لجمع أكبر كمية من المكسرات، واللي ما عنده يعطي فلوس!"


التعرّف على تراث المدن
ويستحضر جاسم دور والده في غرس هذه القيم، قائلاً: "والدي – رحمه الله – كان يأخذنا معه في الزيارات العائلية والغبقات الرمضانية، ليعرّفنا على الأهل ويقوّي الروابط الأسرية. كان حريصًا على أن نتعرف على تراثنا، ويأخذنا إلى ربعه في الخور وغيرها من المدن القطرية، وكان يُحب سوق واقف، ويعتبره بوابة للتاريخ."


الوالد محمد الخليفي.. عراب الآثار في قطر
ويتحدث جاسم بفخر عن والده، أحد رواد علم الآثار في قطر، قائلاً: "والدي محمد جاسم الخليفي تخرّج من جامعة القاهرة حاصلاً على ليسانس في الآثار والفنون الإسلامية عام 1979. تدرّج في المناصب حتى أصبح مديرًا لإدارة المتاحف والآثار في أبريل 1994. حصل على المرتبة الأولى في التأليف المعماري من منظمة العواصم والمدن الإسلامية في أنقرة عام 1993، ويتقن الإنجليزية والفرنسية."
ويضيف: "كان المشرف العام على مشاريع الترميم الكبرى، وشارك في حفريات مدينة الزبارة لثلاثة مواسم، وكذلك في قلعة مروب الإسلامية وموقع لوسيل. وقد ساهم في اكتشاف مواقع أثرية مهمة تسلط الضوء على تاريخ قطر. كان يعيش تجربة التنقيب بكل تفاصيلها، يقيم مع فريقه في الخيام، ويقضي فتراتطويلة في مواقع الحفر".


مؤلفات خالدة وإرث علمي باقٍ
يتحدث جاسم الخليفي بفخر عن إنتاج والده العلمي، قائلاً: "أثرت كتب والدي محمد بن جاسم الخليفي المكتبة القطرية والعربية، حيث أصدر عدة مؤلفات قيّمة تُعنى بالآثار والمعمار التقليدي في قطر. من أبرزها كتاب (آثار الزبارة ومروب) الذي صدر في أغسطس 1993، وكتاب (المواقع الأثرية والتراث المعماري والمتاحف في قطر)، وكتاب (الحِرف والصناعات في قطر) عام 1996".
كما أضاف إلى رصيده العلمي كتاب "هندسة بناء القصر القديم" عام 2000، و"العمارة التقليدية في قطر" الذي صدر عام 2003، وهي مؤلفات لا تزال مرجعًا للباحثين والمهتمين.
ويضيف جاسم: "كان والدي يسافر لحضور معارض الكتب المتخصصة، ولديه مكتبة ضخمة في البيت تحتوي على أمهات الكتب، وكان حريصًا على تثقيف نفسه والاطلاع على كل جديد في مجاله. كان قارئًا نهمًا وعاشقًا للمعرفة".


البيت كله على خُطى الآثار
ويؤكد جاسم أن والده لم يورّثهم حب التراث وحسب، بل غرس فيهم الوطنية والانتماء، قائلاً: "ربّانا على حب الوطن والدفاع عنه، وعلى أهمية الحفاظ على الموروث والمقتنيات. كل أفراد العائلة تأثروا به، فبدأت أنا بجمع الطوابع، وأخي عبدالله جمع العملات القديمة، أما أخواتي فشغوفات بتصوير الأماكن التراثية مثل سوق واقف والمعالم الأثرية في قطر".
ويضيف بابتسامة: "رغم أنني اخترت تخصصًا مختلفًا تمامًا، فالوالد شجعني على الانخراط في سلك الشرطة، إيمانًا منه بأن الدفاع عن أمن الوطن جزء لا يتجزأ من حب الوطن".


ذكرى مؤلمة
ويختتم جاسم حديثه بتأثر، مستذكرًا رحيل والده عام 2016: "رحل والدي بعد رحلة طويلة من العطاء والجهد في خدمة التراث الوطني. لم يكن مجرد موظف، بل كان شغوفًا بعمله، ومحبوبًا من الجميع. قدّم الكثير للمتاحف، خاصة متحف قطر الوطني الذي تأسس عام 1975، وشارك في ترميم العديد من المواقع، وترك لنا إرثًا لا يُقدّر بثمن".
ويختم بقوله: "برحيله، فقدت قطر والأمة العربية واحدًا من أبرز روّاد علم الآثار، لكن أثره لا يزال حاضرًا في كتبه، وفي المواقع التي رمّمها، وفي القلوب التي أحبّته".