في جبال القوقاز الشاهقة، وتحت ظلال التاريخ والمقاومة، يطلّ شهر رمضان على الشيشانيين ليس كشهر للعبادة فحسب، بل كمرآة صافية تعكس عمق انتمائهم لهويتهم الدينية والثقافية، وتماهيهم مع تراثهم العريق وأسلوبهم المعيشي الفريد. ففي هذا الشهر المبارك، تتجدد في النفوس معاني الصبر والوفاء، وتعود العائلات لتنسج حكاياتها الأصيلة على مائدةٍ واحدة، يظللها الدعاء وتغمرها البركة.لم يكن رمضان دومًا حاضراً في العلن. فإبان الحكم السوفييتي، كان الاحتفال بالشهر الكريم محرّمًا، كما مُنعت سائر المناسبات الدينية. لكن بعد انقضاء تلك الحقبة القمعية، عاد للشعب الشيشاني نبضه الروحي، واستعادت مناسباتهم الإسلامية خصوصيتها، لا سيما في ظل الوضع الجديد للجمهورية ككيان يتمتع بالحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي.


قمم الجبال.. بداية الرؤية ونبض الانتظار
لا تبدأ قصة رمضان في الشيشان برؤية الهلال فحسب، بل تبدأ قبل ذلك بأسابيع، حيث تبدأ الاستعدادات في شهر شعبان. ومع اقتراب الليالي الأخيرة، ترسل هيئة الإفتاء ممثلين إلى أعالي الجبال، في مشهد لا يخلو من الهيبة، لمراقبة الهلال والتحقق من ظهوره. وحين يُرى الهلال، يُعلن للناس بفرح يشبه عودة مسافرٍ بعد غيابٍ طويل.
في صباح اليوم الأول من رمضان، تتوجه العائلات الشيشانية إلى المقابر، لتقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء وتزور عوائلهم. إنها لحظة تأمل في معاني التضحية، واستحضار لذاكرة الأبطال الذين ربطوا هذا الشهر بملاحم الفداء والمقاومة. وفي ليالي الجمعة، تتلألأ زوايا المساجد بحلقات الذكر التي تُقيمها الطرق الصوفية، فتغدو الليالي مزيجاً من النور والطمأنينة.


الكرم شيمة الشيشانيين
لا يعرف الشيشانيون رمضانًا بلا صحبة، فالإفطار عندهم مناسبة جماعية بامتياز. من النادر أن تفطر الأسرة بمفردها، بل يُدعى الجيران والأقارب لتشارك المائدة، في صورة تفيض دفئًا ومحبة. ويضرب الشيشانيون أمثلةً رائعة في الكرم، إذ يقولون: «إذا طهوت لثلاثة، فليكفِ الطعام لأربعة.»



مطبخ القوقاز.. مذاق الأصالة والصحة
يعد المطبخ الشيشاني من أقدم المطابخ في منطقة القوقاز، وتفضّل العائلات الشيشانية إعداد الأطباق التقليدية خلال رمضان، لما فيها من فائدة وصحة. الأطعمة ليست حارّة، وتقوم على استخدام الدقيق واللحوم، ومن أشهرها: غالناش: دقيق الذرة الممزوج بالسمن والعسل. خينغالش وشيبالغاش: وهما نوعان من المعجنات المحشوة باليقطين أو الجبن. وتتحوّل المطابخ إلى ساحات إبداع في الطهي، تزينها النكهات وتغمرها البركة.

وفي دلالة على تعلقهم بهذا الشهر العظيم، يُطلق الشيشانيون على مواليدهم أسماء تعكس روح رمضان. فـ»رمضان» للذكور و»مرحى» للإناث، هما من الأسماء المحببة التي تكرّرها العائلات كل عام، حتى أصبحت هذه الأسماء جزءًا من تقاليد الشهر المبارك.
وتزدحم المساجد بالمصلين، وتعلو أصوات التهجد والدعاء، لا سيما في صلاة التراويح التي يحضرها الصغار قبل الكبار، في مشهد يربّي النشء على حب الصلاة وروح الجماعة. وتشهد بعض المساجد حلقات ذكر تمتد من الفجر حتى الشروق، أو تُعقد بعد صلاة العشاء، فتتحوّل المساجد إلى مدارس روحية تحتضن الجميع.