في خطوة تعكس التوجه الجديد لسوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، يصل الرئيس السوري أحمد الشرع اليوم إلى العاصمة السعودية الرياض، في أول زيارة رسمية له إلى الخارج منذ توليه السلطة. لم يكن اختيار المملكة كأول وجهة دولية للشرع مجرد قرار بروتوكولي، بل هو تجسيدٌ لعلاقة راسخة بين دمشق والرياض، وتأكيدٌ على أهمية الدور السعودي في رسم مستقبل سوريا الجديدة.
وسبق للرئيس أحمد الشرع أن تحدث علنًا عن أهمية السعودية بالنسبة لسوريا، بل وأبرز علاقته الشخصية بالرياض، حيث صرّح في مقابلة سابقة مع قناة العربية السعودية قائلاً: "المملكة تسعى لاستقرار سوريا، ولها فرص استثمارية كبرى فيها.. أفتخر بكل ما فعلته السعودية لأجل سوريا، ولها دور كبير في مستقبل البلاد"، "كما كشف أنه عاش حتى سن السابعة في العاصمة السعودية، وأنه يشعر بـ”الحنين لزيارتها مجددًا"، ما يؤكد التواصل التاريخي بينه وبين المملكة، وأن زيارته اليوم تحمل بُعدًا شخصيًا وسياسيًا يعكس التقارب المتزايد بين الجانبين.
السعودية ومسؤوليتها التاريخية تجاه سوريا
لم تكن المملكة العربية السعودية يومًا على هامش المشهد السوري، بل كانت حاضرة منذ اليوم الأول للأحداث التي عصفت بالبلاد في عام 2011م، وأكدت موقفها الثابت الداعم لوحدة سوريا وأمنها بعيدًا عن أي تدخلات أجنبية. منذ اندلاع الأزمة، انحازت الرياض إلى الشعب السوري، ودعت إلى إيجاد حلول تحفظ سيادة سوريا وحقوق مواطنيها، بعيدًا عن الصراعات الإقليمية التي مزقت البلاد.
كما كان للمملكة دورٌ بارز في احتضان السوريين خلال سنوات الحرب، حيث استضافت أكثر من ثلاثة ملايين سوري، وعاملتهم كمقيمين وليس كلاجئين، ووفرت لهم التعليم والعلاج بالمجان، ومكّنتهم من العمل، ما جعلها الدولة العربية الأكثر احتضانًا للسوريين خلال الأزمة. على مدار 13 عامًا، نشأت أجيالٌ سورية في المملكة، ولم يشعروا يومًا أنهم غرباء، بل كانوا جزءًا من نسيج المجتمع السعودي.
واليوم، ومع زيارة الرئيس الشرع إلى المملكة، فإن السعودية تؤكد من جديد أنها لن تتخلى عن دورها كداعم رئيسي للشعب السوري، وأن مستقبل دمشق لا يمكن أن يكون بمعزل عن الحضن العربي.
خارطة الطريق السعودية: الإصلاحات أولًا
سابقًا، لم تكن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية قرارًا عفويًا، بل جاءت وفق رؤية واضحة وضعتها المملكة، تتضمن التزامًا من القيادة السورية الجديدة بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، بما يضمن فتح صفحة جديدة مع المواطنين السوريين، وإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس سليمة، وقد وضعت السعودية مع الدول العربية شروطًا واضحة لهذه العودة، تضمنت التزام الحكومة السورية بعدة ملفات محورية، من أبرزها:
ملف مكافحة المخدرات: حيث شكّلت تجارة المخدرات تهديدًا مباشرًا لدول الجوار، خاصة بعد تحول سوريا إلى أحد مراكز تصنيع وتهريب المخدرات في المنطقة. كانت المملكة واضحة في مطالبتها بإجراءات صارمة للقضاء على هذه الظاهرة، واعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لاستعادة العلاقات الطبيعية مع دمشق.
إعادة اللاجئين: حرصت السعودية على التأكيد أن حل الأزمة السورية لا يكتمل دون عودة ملايين اللاجئين إلى بلادهم، وضمان توفير بيئة آمنة ومستقرة لهم، بدلًا من تركهم عرضة للظروف الإنسانية الصعبة في الشتات.
إلا أنه، وعلى الرغم من مرور أشهر على عودة سوريا إلى الجامعة العربية، لم تحرز حكومة بشار الأسد تقدمًا كبيرًا في هذين الملفين، وهو ما جعل عملية إعادة دمج سوريا عربيًا تسير بوتيرة بطيئة ومشروطة بمزيد من الخطوات الإصلاحية.
الشرع والسعودية: شراكة استراتيجية لمستقبل سوريا
لا شك أن زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى المملكة تعكس إدراكه لأهمية الدور السعودي في إعادة بناء سوريا، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضًا على الصعيدين الاقتصادي والاستثماري. إذ تمتلك الرياض أحد أقوى الاقتصادات في المنطقة، وتعتبر شريكًا استراتيجيًا لأي عملية إعادة إعمار حقيقية في سوريا.
وقد أكد الرئيس الشرع في أكثر من مناسبة على أن السعودية تمتلك فرصًا استثمارية كبرى في سوريا، ولها دور محوري في مستقبل البلاد. وتأتي هذه التصريحات متوافقة مع رؤية المملكة التي تؤمن بأن إعادة إعمار سوريا لن تكون ممكنة دون تحقيق استقرار سياسي وأمني أولًا.
إعادة الإعمار: السعودية بوابة الاقتصاد السوري الجديد
تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة لإعادة بناء بنيتها التحتية، التي دُمرت خلال سنوات الحرب، وهنا تبرز المملكة كأحد أبرز الفاعلين الاقتصاديين القادرين على دعم هذه العملية. غير أن الرياض لن تضخ استثمارات في سوريا دون توفر بيئة استثمارية آمنة ومستقرة، ووجود إصلاحات اقتصادية تضمن الشفافية والحوكمة الرشيدة.
وهذا يعني أن دمشق مطالَبة باتخاذ خطوات جادة لجذب الاستثمارات السعودية والخليجية، من خلال تهيئة بيئة قانونية وإدارية تضمن حماية المستثمرين، وإزالة العقبات التي تعرقل التنمية الاقتصادية.
الموقف السعودي: دعم الشعب السوري أولًا
منذ عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، حرصت المملكة على التعامل مع الملف السوري بعقلانية وحكمة، بعيدًا عن القرارات العاطفية. ولهذا، لم تتم حتى الآن دعوة الرئيس السوري إلى زيارة رسمية للرياض، كما أن اللقاءات التي جرت مع القيادة السعودية كانت في إطار اجتماعات القمم العربية فقط، وهو ما يعكس أن المملكة لا تزال تتابع عن كثب مدى جدية الحكومة السورية في تنفيذ التزاماتها.
الرياض تدرك أن إعادة سوريا إلى الفضاء العربي ليست مجرد خطوة شكلية، بل تحتاج إلى إجراءات حقيقية تضمن تحقيق الاستقرار، وحماية حقوق السوريين، وإعادة بناء الدولة على أسس متينة. ولهذا، فإن التعامل السعودي مع دمشق سيظل مشروطًا بمدى التزامها بتحقيق التطلعات العربية والإصلاحات الداخلية.
السعودية بوابة سوريا إلى العالم العربي
زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى المملكة اليوم تمثل نقطة تحول في المسار العربي لسوريا الجديدة، حيث تعكس رؤية القيادة السورية بأن السعودية هي الشريك العربي الأهم في هذه المرحلة، وأن التقارب مع الرياض ليس مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لضمان استقرار البلاد وإعادة إعمارها.
من جهة أخرى، تبقى السعودية حريصة على مصلحة الشعب السوري، ولن تدخر جهدًا في دعم أي مسار يضمن حياة كريمة ومستقبلًا مستقرًا للسوريين، ولكنها في الوقت ذاته لن تقدم دعمًا غير مشروط، بل ستظل متمسكة برؤية واضحة تضمن أن تكون سوريا الجديدة أكثر قوة واستقلالية، وبعيدة عن التدخلات الخارجية.
وستبقى الرياض البوابة الكبرى لعودة سوريا إلى المشهد العربي والدولي، لكن نجاح هذه العودة رهنٌ بمدى استعداد القيادة السورية للالتزام بالإصلاحات، والانخراط الجاد في مسيرة التنمية والاستقرار.