تُعد العلاقة العلمية بين الجزيرة العربية وبلاد الشام من أقدم الصلات الثقافية والمعرفية، حيث كانت هذه الروابط تمتد بين علماء المنطقتين، سواء من خلال الرحلات العلمية أو التدريس والتأليف، وفي هذا السياق، يوضح الباحث والمؤرخ السعودي د. راشد بن محمد العساكر أن "علاقة السعودية بالشام ضاربة في القدم، فمن النواحي العلمية، درس بعض علماء الشام في مكة والمدينة النبوية، ودرس بعضهم في حَجْر اليمامة (هي مدينة الرياض اليوم)".
ولفت العساكر إلى أن من أبرز العلماء الذين تلقوا العلم في حجر اليمامة الإمام الأوزاعي (ت 157 هـ / 747 م)، الذي أخذ عن كبار علمائها، ومنهم الإمام يحيى بن أبي كثير اليمامي (ت 129 هـ / 747 م)، أحد المحدّثين البارزين الذين يدور عليهم علم الإسناد في الحديث النبوي، واستمرت هذه الروابط العلمية حتى القرون المتأخرة، حيث يذكر الباحث أن "الصلات العلمية والاجتماعية ظلت قائمة ومستمرة وصولًا للقرن التاسع الهجري، فقد استقر في بلدة عنيزة ودرّس بها شيخ القراء الشاميين ابن الجزري عند رحلته للحج عام 822 هـ / 1420 م"، وفي الفترة ذاتها، درس علماء من العارض والدرعية على يد كبار فقهاء الشام، ومنهم الإمام المجدد أحمد بن عطوة الدرعي التميمي الحنبلي (ت 948 هـ / 1542 م)، الذي تتلمذ على يد الفقيه الشامي المرداوي الحنبلي (ت 885 هـ / 1466 م)، كما درس على الإمامين العسكري وابن عبد الهادي في المدرسة العمرية بالصالحية في دمشق.
ومن بين أقدم العلماء النجديين الذين تلقوا تعليمهم في دمشق الشيخ محمد بن حميدان النجدي الحنبلي (ت بعد 870 هـ / 1466 م)، حيث يُذكر أنه "أوقف بعض كتبه الشرعية في الصالحية بدمشق عام 870 هـ"، كما درس في الشام الشيخ العلامة المحقق عثمان بن قائد الحنبلي، الملقب بـ ابن تيمية نجد (ت 1097 هـ / 1686 م)، وغيرهم من العلماء وطلاب العلم الذين يُعدّون بالمئات، ما يعكس مدى الامتداد العلمي بين نجد وبلاد الشام.
ويؤكد العساكر أن "الصلة العلمية والاجتماعية بين علماء المنطقتين استمرت حتى قيام الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة"، مشيرًا إلى أنه قام بزيارة بعض المدارس العريقة، وعلى رأسها المدرسة العمرية بالصالحية في دمشق، حيث نشر تراجم عدد من العلماء النجديين الذين كان لهم أثر علمي بارز في بلاد الشام. كما أنه وثّق بعض المخطوطات التي تعكس هذا الترابط، ومن بينها:
• أقدم وقفية نجدية في الشام للشيخ ابن حميدان النجدي عام 870 هـ.
• بعض مخطوطات العلامة أحمد بن عطوة (ت 948 هـ)، الذي أوقف العديد منها في الشام، فيما جلب بعضها إلى الدرعية والعارض.
• مخطوطات نادرة بخط مؤلفيها، مثل:
• مخطوطات لابن تيمية وابن قدامة.
• مسودة كتاب الإنصاف بخط العالم المرداوي.
• كتب الإمام ابن عبد الهادي، وغير ذلك من الكنوز العلمية.
ويشير د.العساكر إلى أنّ هذا التوثيق يعكس عمق التواصل العلمي بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، والذي ظل قائمًا عبر القرون، مما أسهم في حفظ التراث الإسلامي ونقل المعرفة بين الأقاليم المختلفة. وختامًا، يدعو العساكر بالرحمة لهؤلاء العلماء وطلاب العلم الذين أخلصوا في نشر علوم الكتاب والسنة، وأسهموا في إثراء الفكر الإسلامي عبر التاريخ.