إلى جانب عامل الإزدهار والنمو الاقتصادي كمقياس لتطور المدن ومستوى حضارتها، فإن هناك العديد من العوامل الأخرى، التي يُمكن الاستدلال من خلالها على مدى حضارة وتقدم المدن على مستوى العالم، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر: المقاييس الاجتماعية، التي تقييس مستوى التعليم ومعدل الالتحاق بالمدارس والجامعات، بما في ذلك مستوى الخدمات الصحية وجودتها ونسبة الفقر ومستوى المعيشة ومستوى الأمان وانخفاض معدلات الجريمة.
ولكن أيضاً هناك عوامل أخرى مهمة يُمكن من خلالها قياس مستوى حضارة وإزدهار المدن، كالمقاييس العمرانية والبيئية، التي تقيس جودة التخطيط العمراني والمساحات الخضراء، وتوفر وسائل نقل عام حضارية صديقة للبيئة، تحقق للعامة سهولة الحركة والتنقل، إضافة إلى توفر بيئة نظيفة خالية من الانبعاثات الكربونية ومستويات التلوث الخطيرة على صحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى.
وبالتالي فإن نمو وازدهار المدن اقتصادياً الذي يقاس بحجم الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد منه، وانخفاض معدل البطالة ووفرة فرص العمل، وتنوع القطاعات الاقتصادية واستدامتها، ليس بالعامل الوحيد للاستدلال على مدى تطور وحضارة المدن، حيث أن لجمال المدن وخلوها من مظاهر التشوه البصري، يُعد أمراً مهماً ومستحباً لجعلها مكانًا جاذبًا للحياة وللاستثمار وللتنمية المستدامة، وبالذات وأن المدن المتحضرة والجميلة الخالية من مظاهر التشوه البصري، تُعد مقياس ومرآة لقاطنيها، والتي يٌمكن من خلالهم التعرف على ملامحها وعلى تاريخ ثقافتها وأسلوب حياتها.
وبالتالي فإن وجود مظاهر من التشوه البصري سواء بالشوارع أو بالطرقات، أو بغيرها، سوف يُعكر من صفو الحياة بالمدينة، وتصبح مظاهر التشوه البصري جزءًا من الحياة اليومية، بحيث تترسخ في الأذهان وتصبح أمراً معتاداً عليه ومألوف لا مفر منه.
تَجدر الإشارة إلى أن وزارة البلديات والإسكان عندما أطلقت حملتها تحت شعار “لأنها بلدي.. أنا أمتثل”، لم يكن الهدف منها مجرد تحفيز الأفراد على اتباع الأنظمة، بل كان تأكيداً على أن الامتثال للأوامر، حيث أن الانتثال للأوامر، يُعد مسؤولية وطنية وقيمة مجتمعية يجب أن يتبناها الجميع، فإذا نظرنا مثلاً إلى أسوار البناء المؤقتة، والالتزام بإزالة مخلفات البناء على الفور، وحماية الأرصفة والمرافق العامة، نجد أن هذه الإجراءات لا تعكس فقط الالتزام بالقوانين، بل أيضًا تَعكس صورة جميلة مشرقة ومشرفة تُجسد احترامٌ عميقٌ للبيئة الحضارية التي نعيش فيها وننعم فيها بالمملكة العربية السعودية.
إن وطننا الغالي يستحق منا الامتثال للأوامر وللأنظمة التي تُحافظ على جمال مدننا، ويستحق منا كذلك أن نسعى جاهدين لمكافحة وحجب كل ما يسيء إلى مظهرها الحضاري ويقود إلى التشوه البصري، الذي ليس فقط هو مجرد منظر مزعج للبصر فحسب، وإنما هو إنعكاس لثقافة الإهمال التي يجب أن نمتنع عنها.
فمثلاً لا يجوز ترك المواقع الإنشائية مكشوفة أمام العامة، مما يتسبب في الفوضى وفي تلوث المشهد العام، كما أنه ليس من المقبول ولا من المعقول ولا من المنطق، أن تتكدس المخلفات على الأرصفة والشوارع، لتصبح في نظر البعض جزءًا من المنظر الطبيعي للمدينة، وبالذات وأنه لا يمكن لمجتمع يطمح للتحضّر والتقدم أن يقبل مثل هذه التجاوزات، خاصة في وطن يسعى ليكون رائدًا في التنظيم والجمال على مستوى العالم.
إن المحافظة على المظهر الحضاري لمدننا، يُعد مسؤولية مجتمعية مشتركة، فالكل مسؤول عن الحفاظ على جمال المدن وتنظيمها، سواء كان مواطنًا، أم مقيماً أم مسؤولًا أم موظفاً حكوميًا، أو صاحب مشروع تجاري أو مقاول إنشاء، كما أن كل فرد يجب أن يكون مدركًا لأهمية دوره في تحسين البيئة الحضرية، وإذا كان البعض لا يدرك الأضرار التي قد تسببها هذه الظواهر، فإن الرقابة المستمرة والعقوبات المناسبة يجب أن تكون حلًا لضمان الامتثال.
أختم بالقول، أننا نحن اليوم أمام اختبار حقيقي، إما أن نحجب التشوه البصري عن مدننا ونعمل على جمالها، أو نسمح له بالانتشار ليطغى على ملامح وطننا، ولا شك أن الخيار الأول هو الأنسب، لأن وطننا يستحق أن يكون في أبهى صورة دائمًا.