تواصلت مع نورة محمد العلي وطرحت عليها بعض الأسئلة المتعلقة بوالدها الفنان محمد العلي كوالد ورب أسرة، فما كان منها إلاّ وأرسلت إليّ شخصيته في المنزل، وبعض المواقف التي شاهدتها هي، والحقيقة أن جميع الذين تواصلت معهم، أو الذين كتبوا عنه بُعيد وفاته في الصحف أو بعد رحيله، أجمعوا على مكارم أخلاقه وطيبته وسمو أخلاقه، بل هو مدرسة في الأخلاق والشيم والمبادئ.

هو محمد بن عبدالله بن علي السالم من مواليد 1369هـ في مدينة الرياض، درس الابتدائية في الرياض، ثم أكمل الابتدائية في دمشق، ثم انتقل إلى القاهرة ليواصل دراسته، ثم رجع إلى أرض الوطن 1382هـ فنال الشهادة الثانوية عام 1385هـ، وابتعث إلى بريطانيا لدراسة الهندسية الإلكترونية ومكث أربع سنوات هناك، وبعد رحلة الابتعاث أبحر في محيط الحياة ليبدأ خطواته الأولى في أداء رسالته، ويخوض غمار العيش وإيجاد مصدر رزق له فتعين في الخطوط السعودية، فكانت أول وظيفة يتعين فيها، وكان قد تعاون مع التلفزيون حيث كان يقدم نشرة الأخبار باللغة الإنجليزية حينما كان بدون ألوان، وكان قد انضم إليه في وقت مبكر قبل سفره إلى بريطانيا.

تعيّن محمد العلي في عدة شركات، وكان في منصب قيادي فيها، فتكون لديه خبرة عميقة، لهذا أسّس مؤسسة للإنتاج الفني، وتولى إدارتها بنفسه، وأطلق عليها مؤسسة السالم للإنتاج الفني، واستمرت تحت إدارته حتى رحيله عام 1422هـ، وعندما طرحت على نورة العلي بعض الأسئلة عن والدها وكيف كان يتعامل مع أسرته وفي المنزل وبعض مواقفه الإنسانية أجابت: "تواصل معنا شاب سوري كان يعمل مع الوالد، وذكر لنا أنه يومياً يعطيه مبلغ مالي لوجبة الغداء، ويتأكد أنه حصل وقت للراحة وكان يعامله كواحد من أبنائه"، مضيفةً أنه كان يتخلى عن مقتنياته الشخصية، حتى أنه في إحدى المرات رجع بدون ساعته الشخصية وعندما سألته الوالدة عنها ذكر أنه أهداها لأحد الأصدقاء والذي أبدى إعجابه بها، وفي إحدى المرات فقدوا إحدى سيارات المنزل واكتشفوا أنه أعطاها لصديقه الذي يمر بأزمة مالية.

شغوف ومُتابع

وتابعت نورة العلي قائلةً: «إذا كان هناك تصوير قريب من المنزل كان يأتي بالأطفال الممثلين ويدخلهم المنزل، يلعبون ويتناولون وجبة الغداء؛ لأجل منع الملل وتقليل الشعور بالإجهاد جراء العمل والتصوير لساعات طويلة»، مبينةً أنه أثناء إحدى الرحلات في الإجازة كنا ذاهبين إلى البحرين، إلاّ أنه توقف في المنطقة الشرقية؛ لأن أحد الفنانين توفي والده فحرص على تقديم التعزية له رغم سفره.

وذكر الزميل الصحافي علي الزهراني أنه التقى الفنان القدير محمد العلي -رحمه الله- عام 1408هـ، وبدأت علاقتنا بعد تعاوني في تلك الفترة ببعض الأعمال التلفزيونية والإذاعية والتعليمية من خلال الشركة التي كان يديرها «المجموعة السعودية للإنتاج الفني»، مضيفاً أنه بادله التعاون من خلال الصحافة الفنية وتحديداً في الصفحة الفنية التي كنت أشرف عليها بصحيفة المسائية في تلك الفترة، مؤكداً أنه كان شغوفاً بمتابعة كل ما يطرح عبر الصحيفة، ويناقش ويرد، ويسعده كثيراً عندما يعرف بأن هناك عملاً درامياً سيتم إنتاجه لأحد المنتجين السعوديين، سواء كان دراما تلفزيونية أو مسرحية أو إذاعية، ويسره كثيراً استشارات واستفسارات الزملاء التي كانت تطرح عليه، خاصةً الجيل الجديد في تلك الفترة ويساعدهم بما يرغبون.

طيب ومتواضع

وتابع الزهراني قائلاً: «يُعد محمد العلي -رحمه الله- إنساناً بشوشاً طيباً متواضعاً، يحتفي بالجميع ويحرص على تجمعهم في مكتبه أو منزله، بل ويقيم الموائد التي تشهد على كرمه ومودته للزملاء الفنانين»، مضيفاً: «غني عن التعريف الفني، وتاريخه الصحفي والإذاعي والمسرحي والتلفزيوني يعتبر أرشيفاً فنياً داعماً للمكتبات الثقافية والفنية، خدم الصحافة والإعلام والإنتاج التلفزيوني والمسرحي المحلي بالعديد من الأعمال الفنية التي لا تزال ذات أصداء تتردد حتى بعد رحيله، سواء من خلال أدواره كممثل أو من خلال أعماله كمنتج، وكذلك بعدها من خلال مؤسسته الفنية الخاصة، تشرفت بأن أحضر تكريمه في مهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون بالبحرين عام 1999م، وقمنا بالاحتفاء به بحضور مجموعة من الزملاء ومنهم علي إبراهيم ومريم الغامدي وأيمن زيدان وأمل عرفة ومنى واصف، وقمت بنشر تغطية ذلك في الصحافة».

رفقة وصداقة

وأوضح مطرب فواز -فنان مخضرم- أن له مع محمد العلي -رحمه الله- رفقة طويلة وصداقة حميمة وعلاقة يسودها المحبة والاحترام والتقدير، مضيفاً: «عرفت عن هذا الرجل العظيم كل الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، ومسارعته في مساعدة الجميع، يبذل كل ما يستطيع في سبيل تحقيق خدمة أو حاجة لأي شخص يقصده، وأحياناً كثيرة يبادر في عرض خدماته لأي زميل أو صديق يعلم أنه في حاجة لأي أمر من أمور الدنيا، بالمال والجاه، المواقف كثيرة لا تعد ولا تحصى، فكل مواقفه لا بد أن ينتج عنها خير وفائدة، في إحدى المرات طلب مني الراحل وكان وقتها مديراً عاماً للمجموعة السعودية للإنتاج الفني، أن أتولى إدارة مشروع فني للتلفزيون تنفذه المجموعة، وهذا المشروع عبارة عن تصوير كافة المدن والمعالم في المنطقة الشرقية، وقمت بتنفيذ المهمة في خلال عشرين يوماً على أكمل وجه، وبعد رجوعي بكامل المواد، ورأى النتيجة، قال لي على الفور: عينتك نائب مدير عام المجموعة، وليس لك الحق في الرفض أو المشورة، لك عشرة أيام ترتب أمورك أو إذا كان عليك التزامات تخلصها، ولأنني أعزه وأقدره رضخت».

وتابع مطرب فواز: «في أحد الأيام صدم ابنه عبدالإله -وهو يقود السيارة- أحد المارة ونتج عن الحادث وفاة ذلك الشخص، فحكم عليه بالدية، فجمعت كل ما يتوفر لدي من مال وقدمته كمعونة وواجب عليّ تجاه ابن صديقي، وحلفت أن يأخذها، وبعد مدة قدم لي ظرفاً وقال: «هذا فيه أوراق سرية، ما تفتحه إلاّ في المنزل»، أخذت الظرف وذهبت، وعندما فتحته وجدت فيه ضعف المبلغ الذي سبق وقدمته، محمد العلي جميع مواقفه مواقف نبيلة».

أب روحي

وارتبط الفنان عبدالعزيز الفريحي بمحمد العلي -رحمه الله- أعواماً ليست قليلة، فقد تبناه شخصيتنا ورأى فيه فناناً موهوباً، وتعلم الفريحي الشيء الكثير منه، مُعبراً بحديثه: «صلتي بمحمد العلي ليست صلة صداقة فقط، بل هي صلة الأب بابنه، فهو مثل الوالد لي، فكما أن الأب يحرص على ابنه بأن يكون مقيماً للصلاة ملتزم بالآداب والأخلاق فكذلك أستاذنا محمد العلي، راهن علي في مسلسل «الوهم» وتحقق هذا الرهان، ماذا أقول في هذه الشخصية، فهو الأب الروحي لي وهو الصديق الصدوق والمربي والأخ الكبير الناصح الذي سافرت معه في الداخل والخارج وكنا نسكن سوياً في فندق واحد، تعلمت منه الخلق والتواضع واحترام الإنسانية أياً كانت مستواها، علمني كتابة النصوص الفنية والسيناريو وكان يحثني على هذا كثيراً فتعلمت منه هذه المهارة، أذكر أننا كنا نعد بروفات عمل فني في إحدى الفلل السكنية، وحدث أن دخل أحدهم من الذين يريدون مشاهدة البروفات وهو ليس من الفريق الفني ولا من المصورين، فأزعجني هذا الأمر، فقال لي: «تكبرت يا عبدالعزيز على جمهورك، هؤلاء هم اللي شايلينك، فكانت كلمة لها وقع عندي وصدى في نفسي، والحقيقة أنه أستاذ في التربية».

وتابع: «أدين له بالفضل، حيث شجعني على إكمال الدراسة، وكان عاشقاً لفنه ويعطي الفرصة للجميع في أداء الأدوار، وكان ينتقد «فنياً» أي شخص لم يعطِ الدور حقه، لكنه يشيد بالإتقان والجودة لكل من قام بدوره من الممثلين، لدى أستاذنا العلي موهبة وهي التحدث في المجالس بطلاقة، ولديه كاريزما خاصة».

حضور بديهة

وذكر محمد الكنهل -فنان مخضرم- صفات محمد العلي -رحمه الله- من خلال المواقف التي كانت معه قائلاً: «العلي نجم الخليج الأول، وهذا دائماً أكرره وأقوله، وقد يتقاسم معه هذا اللقب النجم الكويتي عبدالحسين عبدالرضا، خاصةً في المسرح»، مضيفاً: «من الأشياء التي عرفتها فيه حضور البديهة في أي موضوع يُسأل عنه، كان إذا وقف على خشبة المسرح يبتهج الجمهور به ويسر سروراً كبيراً، وما ذلك إلاّ لشعبيته وحب الجماهير له، كان من أهم أخلاقه الطيبة والوضوح والشفافية، اشتركت معه في مسرحية ثلاثي النكد، وكلفت بدور بطولي مع عمالقة الفن في الوطن أمثال محمد العلي وعلي إبراهيم وعبدالعزيز الهزاع، وكنت خائفاً من هذا الدور حيث ظننت أنني لا أجيده، لكن العلي دعمني في البروفات وساعدني فيه مع صديقه علي إبراهيم»، مبيناً أنه على الجانب الإنساني لما علم بأن أحد الشباب الذين يعملون معه في مسلسل «خلك معي» لديه ظروف عسيرة، وأن عليه ديوناً وهو العائل لوالدته قام فوراً بجمع مبلغ ومنحه لهذا الشاب، هذا ما نعلمه، وأعتقد أن هناك الكثير مما لا نعلمه من أفعاله الخيّرة، ذاكراً أنه شارك في هذا المسلسل في ست حلقات، وتفاجأ أنه وضع اسمه بالبنط العريض، فبادرت واتصلت عليه وشكرته على هذا الاحتفاء ورد علي: «هذا حقك الأدبي».

لا أخسر زملائي

وتحدث علي إبراهيم -فنان مخضرم- قائلاً: «صحبتي مع محمد العلي -رحمه الله- طويلة الأمد منذ وقت مبكر قبل الدخول في عالم المسرح والتلفزيون، صداقة طال أمدها لعدة عقود من الزمن»، مضيفاً: «من المواقف أننا سافرنا إلى سوريا لتصوير مسلسل (خلك معي)، وقد بدأ معي مرض السكر، وكان يحرص عليّ بحيث أن لا أكل أي شيء يؤدي إلى ارتفاعه، كان يحتضن الشباب ذوي المواهب ويدعمهم، وكان مكتبه دائماً مليء بهم ولا يدخر وسعاً في تشجيعهم».

ولم يكن الممثل خالد الرفاعي بعيداً عن المشهد لذلك استرجع أيامه مع العلي قائلاً: «أول مسرحية شاركت فيها «تحت الكراسي»، وكانت المكافأة قليلة، ولما منح العلي مكافأته وزعها على جميع العاملين في جمعية الثقافة والفنون، وهذا شيء شاهدته، وكان طيباً جداً، وقد حصلت مشكلة بين شخصين من الزملاء تتعلق بالشأن الفني، ولما علم بها قام بالصلح بينهما، يحب أن يجمع ويؤلف بين الأنفس والقلوب؛ لأنه طيب القلب، كان يعطي أجور المشاركين في أعماله التي ينتجها بسرعة وبدون تأخير، وليس مثل بعض المنتجين يتأخر ويماطل، كان دائماً يقول: حتى ولو لم أكسب مادياً من هذا المسلسل أو هذه المسرحية، فلا بد أن أعطيهم أجورهم ولا أخسر زملائي في الوسط الفني».

شمعة تحترق

وكتب عنه المخرج سمعان العاني في كتابه (المسرح السعودي– تجربة وقراءة توثيقية)، حيث ذكر ما نصه: «لعلنا ونحن نوثق للمسرح السعودي أن نتذكر ونذكر أخاً لنا لعب دوراً بارزاً في النهوض بالمسرح السعودي عبر مشاركاته القيمة والمميزة، هو محمد العلي –رحمه الله-، قال الشاعر:

إذا أنت لم تحترق..

وأنا لم أحترق..

فمن يبدد الظلمات؟!

هذا هو الفنان الملتزم الصادق «شمعة تحترق»، لتضيء ظلمات المجتمع وتكشف الممارسات والمشكلات وهموم الناس وتضعها أمام المسؤولين، والواجب هنا بعد التأكد من هذه الممارسات التي تتكون وتتشكل وتنمو في الظلام أن تزال وتوضع لها الحلول لما فيه خدمة المواطن والمجتمع.

وتوفي الفنان محمد العلي يوم الخميس 19 شوال 1422هـ الموافق 3 يناير 2002م إثر أزمة قلبية انتابته، رحمه الله وغفر له.

محمد بن عبدالله العلي -رحمه الله-
العلي في فترة صباه
. وهنا في مرحلة الشباب
في أحد أدواره بمسلسل تلفزيوني
أقصى اليسار مع والده وأخوته وأقاربه
إعداد- صلاح الزامل