شخصية علمية قضائية، سبقت زمانها بمراحل كثيرة، مع أنها عاشت في نجد وفي قلب الجزيرة العربية، ولم تكن قد رحلت وتنقلت خارجها طلباً للعلم سوى إلى الهند، فلم تكن لها رحلة علمية إلى العراق أو الشام، بل هي طلبت العلم في نجد ونهلت ودرست علوم العقيدة والفقه واللغة العربية، ومنذ أن عشقت القراءة عموماً وفي قراءة كتب التراجم والسير خصوصاً تعلقت بهذه الشخصية، واستوقفتني كثيراً؛ لأنها استثنائية، ولا بد لمن يقرأ عنها يتوقف عندها كثيراً، ويتأمل فيها، إنه العالم بل العلاّمة المُصلح الحكيم عبدالله بن سليمان آل بليهد -رحمه الله-، تُرجمت له كتب التراجم، وأجمعت على أنه ذو عقلية متجددة وأنه متنوع المواهب ونابغة من نوابغ العلم والمعرفة، ومنحه الله قوة الحجة وإفحام الخصم في أي شبهة تثار أو إشكال يُطرح، سواء كان علمي أو في أي ناحية من نواحي الحياة، ومجمل القول أن البليهد من خيرة العلماء الدهاة الذين فرضوا احترامهم على الناس وأنه ذو تأثير على من حوله ولديه جاذبية في طرحه وحديثه، فليس هو ذاك التقليدي، فلا يمكن أن تخرج كلماته إلاّ بميزان ودرس وإتقان وجودة.
عبدالله آل بليهد كان آية في الفراسة سواء في الأشخاص، خاصةً في جلسة القضاء، فلديه فراسة نادراً ما تخطئ في معرفة الخصوم من هو المحق أو المبطل؟، من خلال كلام الخصمين، وفي هذا الأمر حدثت له وقائع وقصص وله فراسة فيما يحدث في المستقبل من أمور وتغيرات في الناس وفي المجتمع، كان من الأذكياء الفطنة، سريع الفهم، بطئ النسيان، وهذا عامل قوي في يسر وسهولة طلب العلم، لهذا كان حينما طلب العلم ودرس على المشايخ لم يأخذ من وقته طويلاً، وقد كتب القاضي العالم سليمان بن حمدان ترجمة للبليهد وهو من تلاميذه كما نص على ذلك في كتابه (تراجم لمتأخري الحنابلة).
اختلاف التاريخ
وقال سليمان بن حمدان -بعد سرد نسب عبدالله آل بليهد-: وُلد 1294هـ في قرية القرعاء بالقصيم، والمؤرخ صالح العمري في كتابه (علماء آل سليم) -المجلد الثاني- وذكر أن ميلاده عام 1284هـ والقاضي محمد في كتابه روضة الناظرين، ذكر التاريخ نفسه، والمؤرخ عبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) قد انفرد بتاريخ ميلاده عام 1278هـ، وأمّا الفقيه على الهندي في كتابه (زهو الخمائل في تراجم علماء حائل)، فقد أغرب جداً في تاريخ ميلاد شخصيتنا، حيث ذكر أنه من مواليد عام 1259هـ، والذي يظهر ليّ أن ميلاد شخصيتنا هو ما أثبته سليمان بن حمدان؛ لأنه تلميذه والذي يظهر من ترجمته لشخصيتنا أنه أخذ هذه المعلومات منه مباشرةً بدون واسطة.
بعض مشايخه
وابن حمدان في كتابه هذه يترجم لبعض مشايخه مثل الشيخ ابن عتيق وعبدالله العنقري فهو يسألهم عن سيرتهم ويقيدّ فيما بعد، ولعل عبدالله آل بليهد طلب العلم في حدود عام 1310هـ ويكون عمره 16 عاماً، وهذه مناسبة لطلب العلم، وسرد ابن حمدان مشايخ عبدالله آل بليهد، وهم العالم محمد بن عمر آل سليم، ومحمد بن عبدالله آل سليم، وقراءته على الثاني أكثر، قرأ عليه الجامع الصغير وغيره، وقرأ أيضاً على الشيخ عبدالله بن مفّدا، والشيخ عبدالله بن دخيل والشيخ صالح بن قرناس، ويتابع ابن حمدان سيرة شخصيتنا قائلاً: وسمع من غالب علماء نجد الموجودين في وقته كالشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ، وذكر المؤرخ عبدالرحمن آل الشيخ أن آل بليهد رحل إلى الهند للعلاج واستفاد من رحلته هذه، فدرس على علماء الحديث، ذكر هذا في كتابه القيم (مشاهير علماء نجد وغيرهم)، ولقد أحسن عبدالرحمن آل الشيخ حينما نشر رسالة آل بليهد عن هدم القبور والتي نقلها من صحيفة أم القرى.
حث الأبناء
وروى المؤرخ صالح بن سليمان العمري في كتابه (علماء آل سليم وتلامذتهم) -الجزء الثاني- التعريف بعبدالله آل بليهد -رحمه الله- حيث اجتمع به في حائل لما كان قاضياً بها، يقول العمري: سمعته مرة وأنا في منزله بمدينة حائل ينصح أبناءه عبدالرحمن ومحمد وناصر وإبراهيم ويحثهم على طلب العلم قائلاً: يا أبنائي تيسرت لكم الأسباب، فعليكم بالعلم ما دمت موجوداً، والله لقد كنت أطلب العلم على الشيخ محمد بن عبدالله بن سليم ببريدة وإن وسادتي لعدة شهور لبنة في سطح الجامع في الصيف، وقد أراد -رحمه الله- أن يذكر أبناءه بالنعم التي هم فيها، حثاً لهم على طلب العلم، ثم أضاف العمري قولاً لشخصيتنا: فراشي كان الأرض، فالعلم لا يدرك إلاّ بالتعب، وقد تهيأت لكم الأسباب فاجتهدوا في الطلب قبل فوات الفرصة -انتهى كلامه-.
وقال سليمان بن حمدان في كتابه (تراجم لمتأخري الحنابلة): سمعت العلامة سليمان بن سمحان -رحمه الله- وقد ذكر عنده عبدالله آل بليهد -رحمه الله- أثنى عليه قال: ما علمت مثله في استحضار الحجة، وما علمت أنه انقطع مع أحد في مناظرة -انتهى كلامه-.
أعظم العقول
ووصف الرحالة الشهير محمد أسد -رحمه الله- في كتابه (الطريق إلى مكة) عبدالله آل بليهد -رحمه الله- بكلمات يظن القارئ أنه يبالغ، ومحمد أسد كان يكتب مشاعره وانطباعاته فيما يشاهده ويراه بتلقائية، قائلاً: حينما دخلت إحدى خزائن الكتب والمخطوطات بالمدينة المنورة استدرت باتجاه الصوت ورأيت المتحدث جالساً على بساط بين نافذتين على ركبته مجلد ضخم، كان صديقي القديم الشيخ عبدالله آل بليهد، وكانت عيناه النافذتان تحيياني بنظرة دافئة، وأنا أقبل جبهته وأجلس إلى جواره، كان من أعظم علماء نجد، بل وأعظم العقول التي عرفتها في البلاد الإسلامية، حيث كانت صداقتنا عوناً كبيراً لي على حياتي بالجزيرة العربية، وأدخلت علي كثيراً من البهجة والسعادة.
أدب وعلم
وفي كتاب (أعلام حائل الشيخ عبدالله البليهد) للمؤلفين سعد العفنان وعبدالعزيز البليهد ذكرا كلام بعض مترجمي عبدالله آل بليهد، ومنهم المؤرخ إبراهيم بن عبيد -مؤلف كتاب تذكرة أولي النهى-، فيا له من حبر أديب شهدت له بالفضل منابر العلا، وعرفه بالمكارم أهل الخبرة والنهي، فيا ليت شعري من قبل هذا الشيخ ومن يباريه في الفضل أدباً وعلماً وديناً وعقلاً، وأين لنا مثله، لكنه من رجال كانوا فبانوا -انتهى كلامه-.
وقال المؤرخ علي الهندي -رحمه الله- في كتابه (زهر الخمائل في تراجم علماء حائل)، وهو من تلاميذ عبدالله آل بليهد -رحمه الله-: كان ابن بليهد عالماً فاضلاً، جمع الله له بين السياسة الدينية والدنيوية والعلم والحجة والعقل الوافر، وكان رحالة لا يذكر له أحد علما إلاّ رحل إليه وأخذ عنه، ويواصل الهندي حديثه: حضرت دروسه في صغري وقرأت عليه ثلاثة الأصول وآداب المشي إلى الصلاة، وكان الناس يتعجبون من فصاحته وتقريره وتحليله للمسائل وإخراج النتيجة بما يماثلها حتى كأن العلم بين عينيه.
ثقة المؤسس
وعيّن الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- عبدالله آل بليهد -رحمه الله- رئيساً للقضاة بمكة المكرمة عام 1344هـ حتى نهاية عام 1345هـ، وكان قبلها قاضياً بحائل عام 1341هـ، ثم بعد ذلك تعيّن بحائل مرة أخرى حتى وفاته عام 1359هـ، وهي المدة الطويلة القضائية التي امتدت ما يقارب 14 عاماً، وقبلها أربعة أعوام بحائل، وقد تولى القضاء قبل حائل عام 1333هـ في عالية منطقة القصيم، وقد كانت هناك مشكلات قضائية في عهد الملك عبدالعزيز ولم يقدر القضاة حلها، فانتدبه المُؤسس للفصل في قضايا زراعية، فحكم فيها بسرعة فائقة أرضت جميع الأطراف، ومن تلك الوقائع عرف شخصيتنا عند الملك عبدالعزيز، وكان أن عينه قاضياً في القصيم ثم حائل وبعده رئيساً للقضاة، وهو أعلى منصب قضائي في ذلك الزمن بمثابة وزير العدل، وعندما تعين برئاسة القضاة كانت له أيادي بيضاء في التطوير القضائي، وفي الأساليب الإدارية، ونظام المرافعات آنذاك، وإن كانت مدة بقائه في هذا المنصب قصيرة.
مستوعب لكل جديد
وكما قلت في المقدمة فإن عبدالله آل بليهد -رحمه الله- سابق عصره وزمانه، والذي يقرأ سيرته ومسيرته يعتقد أنه رحل إلى كثير من البلاد العربية والإسلامية والدول غير المسلمة، لكنه لم يرحل إلاّ إلى الهند، ورغم عدم سفره الكثير خارج الجزيرة العربية، فهو مستوعب لكل جديد وحديث، وداعياً إليه في حدود الشريعة الإسلامية، فهو حضاري بطبعه، وإن كان الناس ينفرون من كل جديد وغريب، خاصةً الآلات الحديثة مثل البرقيات والسيارات والهواتف غير السلكية.
وذكر الأديب فهد المارك -رحمه الله- في كتابه (التطور الفكري في جزيرة العرب)، وتحدث عن «اللاسلكي» حينما قال البعض أنه نوع من السحر والشعوذة وضرب بذلك مثالاً، حيث أن آل بليهد كان قد حصل بينه وبين آخر نقاش حول هذا الجهاز، وأنه رأى إباحته، بينما الطرف الآخر يرى حرمة هذا الجهاز، وأنه من صنع الشيطان الرجيم والمحرم استعماله، مضيفاً المارك: في المناظرة تفوق منطق العلم الذي يمثله آل بليهد على المنطق الثاني، حيث قال ابن بليهد لصاحبه: عندما يأتيك من الملك مبلغ من المال، ويكون طريق الإشعار والتبليغ بواسطة البرقية، فهل ترفض قبول هذا المبلغ بحجة أنه جاء بواسطة الشياطين؟ فما استطاع الآخر أن يجيب الجواب المقنع -انتهى كلامه-.
سيارة فورد
وكان عبدالله آل بليهد -رحمه الله- من الذين يعشقون التنقل داخل الجزيرة العربية، لهذا امتلك سيارة من نوع فورد 1345هـ، وروى الرائد الصحفي صالح العمري في كتابه (علماء آل سليم) هذا الحدث قائلاً: هو أول من اقتنى سيارة من الأهالي في نجد وتجول فيها واستفاد منها، وعلّم أحد أولاده قيادتها، فانتقده الناس فلم يبالِ بهم، وقال: سيعلمون أبناءهم القيادة إذا وجدوا السيارات، فكان كما قال -رحمه الله-، مضيفاً العمري: وكان له نظرة في مستقبل البلاد ووجوب استعمال آلات الحرب الحديثة من طائرات ودبابات وغيرها، ويجهر بالحث على استعمالها ويستدل بقوله: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»، وذلك قبل اقتناء الكثير استعمالها، كما كان له نظرة في مستقبل الزراعة وتطور البلاد في العمران، ثم قال العمري: تحققت جميع تصوراته، وكان كثير من الناس يتهمونه بالمبالغة فصدق ظنه وفراسته، فقد كان يتحدث عن ذلك كله في المجالس والمجتمعات ويشرح توقعاته للناس حتى تغير أحوال الناس في المعيشة والعمل -انتهى كلامه-.
ثقافة واسعة
وامتلك عبدالله آل بليهد -رحمه الله- ثقافة واسعة، فهو ذو حصيلة ضخمة في الأدب والشعر والأنساب والجغرافيا التاريخية دراية بالأماكن في جزيرة العرب، وهو عمدة وثقة في هذا الميدان، وكذلك أنساب القبائل، فقد كانت له تعليقات في النسب على كتاب (حاضر العالم الإسلامي)، ومؤلف هذا الكتاب المستشرق لوثروب ستودارد الأميركي، وترجم الكتاب عادل نويهض، وعلق على هذا الكتاب العلامة شكيب أرسلان، وذكر ذلك الدكتور بكر أبو زيد في كتابه (طبقات النسابين)، ولعبدالله آل بليهد (جامع المسالك في أحكام المناسك في الفقه على المذاهب الأربعة) طبعت قديماً، وأعادت نشره مكتبة الإمام الشافعي.
وتوفي عبدالله آل بليهد في 15 رجب عام 1359هـ في مدينة الطائف، وتمت الصلاة عليه في مسجد ابن عباس، وقد تقدم المصلين والمشيعين الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-، حيث كان نائباً للملك في الحجاز آنذاك.