قبل شهرين فقط، انطلقت مرحلة جديدة في حياة العاصمة الرياض مع بدء تشغيل مترو الرياض، ذلك المشروع العملاق الذي يعكس رؤية المملكة الطموحة نحو التحول إلى مدينة حديثة ومستدامة. ومع صعود أولى دفعات الركاب إلى عربات المترو، كانت الرياض تفتح صفحة جديدة في كتابها الحضري.
لكن هذا الإنجاز لا يقتصر على تطوير بنية تحتية حديثة أو تسهيل حركة التنقل داخل العاصمة؛ بل يحمل بين طياته تحولًا أعمق يتعلق بكيفية تأثير هذه الوسيلة الجديدة على حياتنا اليومية وهويتنا الثقافية والاجتماعية كسعوديين. إن استبدال السيارة الخاصة، التي لطالما كانت رمزًا للخصوصية، بوسيلة نقل جماعية يعكس تحولًا تدريجيًا في أنماط العيش ومفاهيم التواصل داخل المجتمع. منذ تشغيل المترو، ظهرت ديناميكيات اجتماعية جديدة تُعيد تشكيل العلاقة بين الأفراد والمجتمع. فجأة، أصبح التفاعل مع أوجه مألوفة وأخرى غريبة جزءًا من التجربة اليومية، مما أثار تساؤلات حول مفاهيم الخصوصية، وكيف يمكن لهذه المساحة المشتركة أن تُحدث تغييرًا في وعينا الجماعي.
تلك العربات التي تحمل أشخاصًا من خلفيات وثقافات متنوعة أصبحت منصة لتكريس مبدأ المساواة الاجتماعية وتقدير التنوع الثقافي. في الوقت نفسه، برزت تحديات تتعلق بالتكيف مع هذا النمط الجديد من الحياة الحضرية، بدءًا من الالتزام بالمواعيد ووصولًا إلى كسر الحواجز الاجتماعية التي طالما رسختها أنماط النقل الفردي.
الأرقام والإحصاءات تسلط الضوء على الأثر الاجتماعي والاقتصادي المتوقع لمترو الرياض، مما يعزز أهمية هذا المشروع. فوفقًا لاستطلاع رأي أجراه المركز الوطني لاستطلاعات الرأي العام، أفاد حوالي 60٪ من سكان الرياض باستخدام المترو للوصول إلى العمل أو المدرسة، وهو ما يعكس تحولًا واضحًا في نمط التنقل اليومي. ويعتقد 71 ٪ من المشاركين أن المترو سيغير عاداتهم في التنقل بشكل جذري، بينما يرى 80 ٪ أنه سيجذب المزيد من الاستثمارات إلى العاصمة. كذلك، أعرب 83 ٪ عن إيمانهم بأن المترو سيحقق تأثيرًا إيجابيًا على البيئة، مشيرين إلى دوره في تحسين جودة الحياة في المدينة. أما على مستوى الاستخدامات الاجتماعية، فقد أظهر الاستطلاع أن 30 ٪ من السكان يخططون لاستخدام المترو للوصول إلى أماكن الترفيه، و24 ٪ للتسوق، و15 ٪ لزيارة العائلة والأقارب. هذه الأرقام تعكس بوضوح أن المترو لا يمثل فقط وسيلة نقل بل أداة لتعزيز التقارب الاجتماعي والثقافي، ما يجعله عنصرًا حيويًا في إعادة تشكيل الروابط المجتمعية داخل المدينة. وسط هذه التطلعات، تتباين أولويات السكان فيما يتعلق بتطوير المترو؛ إذ أكد 40 ٪ أهمية قرب المحطات من أماكن العمل أو السكن، بينما شدد 27 ٪ على أهمية السرعة، و22٪ على معايير السلامة، في حين أعرب 11 ٪ عن ضرورة تعزيز إجراءات مكافحة التحرش. هذه الأرقام تسلط الضوء على احتياجات وتوقعات سكان الرياض من هذه التجربة الحديثة.
هذا التحقيق الميداني يسعى لاستكشاف كيف ساهم مترو الرياض في تشكيل تجربة سعودية جديدة، تأخذنا بين محطات الهوية الثقافية والروح الاجتماعية التي نعيشها يوميًا في قلب العاصمة. هل أصبح المترو رمزًا يعكس روح الرياض الحديثة؟ وكيف يمكن لهذه التجربة أن تُعيد تعريف علاقتنا بمجتمعنا وهويتنا؟ هذه الأسئلة هي محور رحلتنا الميدانية، التي سننطلق فيها لاستكشاف أثر المترو في قلب المدينة ونبض سكانها.
تجربة وفرت المال والوقت
مرام المزيد، طالبة في قسم الاقتصاد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تسكن في حي النسيم الغربي. قابلتها خلال رحلتها اليومية على متن العربة المخصصة للعائلات في المترو. كانت تبدو واثقة ومعتادة على هذه التجربة، تحمل بين يديها حقيبة مليئة بالكتب وتبحث عن مقعد قرب النافذة. جلست بجانبي، وبدأت تروي لي قصتها الملهمة مع وسائل النقل، التي كانت جزءًا لا يتجزأ من رحلتها التعليمية. تعود جذور قصة مرام إلى طفولتها، حيث نشأت في أسرة مكونة من خمس بنات وأخٍ أصغر. كانت تواجه تحديات كبيرة في التنقل نتيجة انشغال والدها الموظف عن توصيلهم إلى مدارسهم. لذلك، اعتمدت منذ صغرها على الحافلات الخاصة للوصول إلى المدرسة، واستمرت على هذا النهج حتى دخولها الجامعة. مع انتقالها إلى الحياة الجامعية، واجهت مرام تحديات جديدة. اعتمدت على الحافلات الخاصة لمدة عام ونصف، لكنها وصفت التجربة بأنها مرهقة. تقول: “كنت أضطر للوصول إلى الجامعة قبل المحاضرات بفترة طويلة بسبب مواعيد الحافلة الثابتة. الرحلة كانت طويلة ومكلفة، حيث كانت التكلفة تصل إلى 650 ريالًا شهريًا» عندما بدأت شبكة المترو في الرياض بالعمل، قررت مرام تجربة هذه الوسيلة الحديثة. وعن تجربتها الأولى، تقول بابتسامة: “كان كل شيء منظمًا وسلسًا. جلست قرب النافذة وأنا أراقب المدينة تمر بسرعة. شعرت حينها أن حياتي ستتغير للأفضل». اليوم، تستغرق رحلتها من حي النسيم إلى محطة سابك حوالي 30 دقيقة فقط، ثم تستقل الحافلة المخصصة التي توصلها مباشرة إلى الجامعة. تقول: “المترو لم يكن مجرد وسيلة نقل، بل أصبح مساحة هادئة أستغلها للتأمل أو الدراسة، كما أتاح لي التعرف على صديقات من كليات مختلفة». مرام تعتبر المترو نقلة نوعية في حياتها الدراسية، مشيدةً بكونه وسيلة نقل متطورة ساعدتها على توفير الوقت والمال، ووفرت لها تجربة يومية مريحة ومليئة بالهدوء والتنظيم.
الاستقلالية ممكنة في كل مراحل الحياة
السيدة أم زيد العواد، ربة منزل وأم وجدة تفخر بأسرتها الكبيرة، اختارت خوض تجربة مميزة أضافت لحياتها اليومية الكثير من البهجة والاستقلالية. تعيش أم زيد في حي الملك فيصل بمدينة الرياض، وتنوع مشاويرها باستخدام المترو بين زيارة مركز الحمراء مول في الصباح للتمشية وممارسة رياضة المشي، أو التسوق في أطياف مول. رأيتها جالسة في عربة المترو بجانب خادمتها الآسيوية التي كانت تدفع عربة صغيرة بعجلات، ممتلئة بما يبدو أنه حصيلة تسوقها من أحد المراكز الغذائية. بابتسامة واثقة، تحدثت أم زيد عن تجربتها الجديدة قائلة: “لم أكن لأفكر في استخدام المترو لولا نصيحة جارتي التي جربت هذه التجربة وشجعتني عليها. وجدت فيها راحة كبيرة وشعورًا بالاكتفاء الذاتي، بعيدًا عن الاعتماد على الآخرين”. وأضافت: “الموظفون هنا يقدمون المساعدة بكل لطف ويجيبون عن أي استفسار، لكنني بطبيعتي أحب أن أعتمد على نفسي. أبنائي دائمًا يقدمون لي الدعم، ولكن مشاغلهم العملية وأعباء حياتهم اليومية دفعتني للبحث عن طريقة تسهل علي أموري دون إثقال كاهلهم». تعتبر أم زيد رحلاتها الأسبوعية بالمترو تجربة فريدة تضيف الكثير إلى يومها. في أطياف مول، تجد متعة خاصة في التسوق داخل لولو ماركت، وتصف تلك اللحظات بأنها أكثر من مجرد جولة تسوق عادية، قائلة: “رحلتي بالمترو تمنحني شعورًا بالسعادة والاستقلالية. إنها تجربة تجمع بين الراحة والمتعة، وتجعلني أشعر بالحيوية والتجدد» . بين التنقل بين أطياف مول للتسوق والحمراء مول للرياضة، أصبحت هذه الجولات نافذة جديدة تمنح أم زيد إحساسًا بالتجدد والاكتفاء الذاتي. تجربة المترو بالنسبة لأم زيد باتت أسلوب حياة يثري أيامها ويوسع آفاقها، ويؤكد أن الاستقلالية متاحة وممكنة في كل مراحل الحياة.
رحلة تعافٍ مع مترو الرياض
في إحدى رحلات مترو الرياض على المسار الأحمر، تجلس السيدة هند المهدي على كرسيها المتحرك، تحمل في ملامحها الإصرار والتفاؤل. هند، المدربة المعتمدة في إحدى مدارس القيادة النسائية، تعرضت قبل 3 أشهر لحادث سقوط من على ظهر حصان أثناء تدريب رياضي، مما أدى إلى كسر في الساق اليمنى. بعد خضوعها لعملية جراحية ناجحة، أصبحت في مرحلة العلاج الطبيعي لاستعادة قدرتها على المشي بشكل كامل. مرتين في الأسبوع، تستقل هند باستخدام المترو من محطة النزهة إلى محطة الخليج، حيث تتلقى جلسات علاج طبيعي في مستشفى الفقيه. ورغم أنها ما زالت على الكرسي المتحرك، فإنها تشيد بتجربة التنقل باستخدام مترو الرياض، معتبرة إياه وسيلة نقل ملهمة ومريحة، خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة. تتحدث هند عن تجربتها: «بعد الحادث شعرت أن حياتي توقفت، لكن مترو الرياض أعاد لي جزءًا من استقلاليتي. المحطات مجهزة بمصاعد وممرات مخصصة تسهل تنقل الأشخاص ذوي الإعاقة، كما أن القطارات تحتوي على مساحات مريحة للكراسي المتحركة.» وتضيف: «كنت أعتقد أن الرحلات ستكون مرهقة أو تحتاج لمساعدة مستمرة، لكن تجهيزات المترو تجعل التنقل سلسًا وآمنًا. الآن أشعر أنني أقترب خطوة بخطوة من استعادة حياتي الطبيعية.» لا تخفي هند إعجابها بمستوى التنظيم والتصميم الذي يجعل المترو وسيلة نقل شاملة للجميع. تقول بفخر: «المترو أصبح جزء من رحلتي نحو التعافي. أشعر أنه يمنحني الراحة والثقة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة.»
فرصة لتوثيق الروابط الأسرية
في عربات مترو الرياض المضيئة بالحياة، جلست شيخة العمار، شابة سعودية في الثلاثينيات من عمرها، برفقة ابنتيها العنود ولولوة. كانت الرحلة تبدو وكأنها مغامرة أسبوعية مميزة تجمع بين الألفة والاستكشاف، قادمة من محطة قرطبة في طريقها إلى محطة أشبيليا، حيث تنتظرها عائلتها لزيارة مليئة بالدفء. الهدوء الذي يلف عربة المترو لم يخلُ من همسات الفرح التي تشاركها الصغيرتان. كتابان صغيران بين يديهما، وحوار طفولي ينبض بالحماس. أما شيخة، فقد استرخت بابتسامة مطمئنة وهي تتحدث عن علاقتها الجديدة بمترو الرياض: «منذ انطلاقه، أصبح المترو صديقي الدائم في التنقل. ليس فقط لأنه أسرع وأسهل، بل لأنه يمنحني فرصة للاستمتاع بالوقت مع ابنتيّ بعيدًا عن التوتر المعتاد في القيادة.»
وأضافت بشغف: «رحلة المترو تمثل لنا تجربة متكاملة. العنود ولولوة تنتظران هذه الرحلة بشوق كل أسبوع، فهي بالنسبة لهما أشبه بنزهة صغيرة. ومن الجميل أن أراهما تتأقلمان على هذا النمط الجديد من التنقل بسهولة ومرح.» تروي شيخة كيف تحولت زيارتها الأسبوعية إلى أهلها من مهمة قد تبدو مرهقة إلى لحظات عائلية مليئة بالراحة. تقول بابتسامة: «كنت أخشى الازدحام وضياع الوقت في الطريق، لكن المترو اختصر المسافة والزمن. أصبح لدينا متسع من الوقت للدردشة واللعب خلال الرحلة.»
ولم تغفل عن ذكر اهتمام المترو بتوفير بيئة مريحة وآمنة: «تصميم المحطات والعربات رائع. كل شيء منظم ونظيف، وهو ما يمنحني شعورًا بالأمان أثناء التنقل مع الأطفال.» رحلة شيخة العمار وابنتيها على متن المترو تحمل بين طياتها قصة جديدة عن التكيف مع الحياة الحديثة، حيث يصبح التنقل فرصة لتوثيق الروابط الأسرية والاستمتاع بلحظات خاصة على إيقاع المدينة المتطورة.
قرار ترك حريتي صعب
دلال الماضي، شابة سعودية تعمل موظفة في أحد البنوك داخل مبنى العقارية بوسط العاصمة الرياض. اعتادت دلال أن تقضي وقتًا طويلًا يوميًا في التنقل بسيارتها عبر زحمة طريق الملك فهد، حيث كان الوصول إلى مقر عملها يستغرق قرابة 40 دقيقة في أفضل الأحوال، مما كان يضيف أعباء يومية تتراوح بين الإرهاق النفسي وضياع الوقت. مع بدء تشغيل مترو الرياض قبل شهرين، قررت دلال استكشاف المسار الأزرق، الذي يمتد من شمال الرياض إلى وسطها. رحلتها اليومية تبدأ من محطة مستشفى الدكتور سليمان الحبيب في الشمال، حيث تستقل القطار متجهة جنوبًا باتجاه محطة مصرف الإنماء، والتي تقع مباشرة أمام مبنى العقارية حيث تعمل. دلال لم تتخلَّ عن سيارتها، لكنها أدركت أن استخدام المترو يوفر لها وقتًا ثمينًا، حيث أصبح مشوارها اليومي يستغرق الآن 20 دقيقة فقط، بدلاً من 40 دقيقة كانت تقضيها سابقًا عالقة في زحمة طريق الملك فهد. هذا التغيير لم يكن فقط اختصارًا للوقت، بل أضاف قيمة جديدة إلى يومها، حيث أصبحت تستمتع برحلة مريحة ومنظمة داخل عربات المترو الحديثة، بعيدًا عن التوتر الذي كانت تعيشه سابقًا خلف مقود السيارة. تقول دلال عن تجربتها: “في البداية كنت مترددة في ترك سيارتي، فهي جزء من حريتي اليومية، لكن مع أول رحلة على المترو شعرت بالفرق الكبير. لا مزيد من القلق بشأن ازدحام الطرق أو البحث عن مواقف. والأجمل أن محطة مصرف الإنماء تقع على بُعد خطوات من مكتبي داخل مبنى العقارية، مما جعل رحلتي أكثر سهولة وراحة.” من خلال نافذة المترو، أصبحت دلال ترى الرياض بعيون جديدة. الطريق الذي اعتادت أن تتنقل فيه أصبح الآن أكثر هدوءًا وجمالًا، حيث يمكنها التركيز على القراءة أو التخطيط ليومها بدلًا من الانشغال بقيادة السيارة. رغم أن قرار استخدام المترو كان تحولًا كبيرًا في حياتها، إلا أن دلال تؤمن بأن هذه الوسيلة الحديثة هي أسلوب حياة جديد يتماشى مع رؤية الرياض كمدينة حديثة ومستدامة. وتختم دلال حديثها قائلة: “المترو أعطاني فرصة لأبدأ يومي بهدوء وأنا مستعدة للعمل بروح إيجابية”.