نساء لم يستسلمن للزمن وجعلنه شاهدًا على قوة إرادتهن

في قلب الرياض، يتنفس سوق النساء عبقاً من الماضي، حيث يتحول إلى لوحة نابضة بالحياة والألوان والأصوات. هنا، بين البسطات المتناثرة والممرات الضيقة، تقف النساء بحضورهن الأصيل، يبعن ما هو أكثر من بضائع؛ يبعن حكاياتهن، تراثهن، وأصالة مجتمع يعتز بماضيه.

عند أول نظرة، تجذبك الأقمشة المطرزة، ألوانها الزاهية تحمل عبق الماضي وتخبرك بأن لكل قطعة قصة. النساء يعرضن الملابس الشعبية التقليدية المزينة بالزخارف الذهبية والخيوط الملونة التي تحاكي التراث. وإلى جانبها، تجد أغطية الوجه من نقابات وبراقع تتلألأ بتفاصيلها الدقيقة، وكأنها تخبرك عن تاريخ طويل من الأناقة والستر.

وعلى الجانب الآخر، تفوح رائحة البخور من خلطات أعدتها أيادٍ ماهرة، ممزوجة بدقة بين عود وزعفران ومسك، حيث تتحدث كل امرأة عن سر خلطتها الفريدة. بجانبها، المعمول الأسود بأشكاله المختلفة يقبع في علب أنيقة، وكأنه يدعوك لتجربة عبق الماضي ممزوج بلمسات الحاضر.

الأصوات في السوق تعكس حياة نابضة؛ أصوات النساء وهن ينادين على الزبائن بلغة عفوية ولهجة بدوية أصيلة: "تعالي يا بنتي، شوفي هالبضاعة الزينة" أو "هذا المعمول تراه مجرب ومضمون ". وحتى عندما تنشغل النساء بترتيب بسطاتهن، تبقى أصوات ضحكاتهن وحديثهن المتبادل مثل سيمفونية تعيدك لدفء المجتمعات القديمة.

يزدهر السوق بشكل خاص في المواسم الكبرى، ولأننا مقبلون على إحدى المناسبات المهمة مناسبة "يوم التأسيس" في 22 فبراير. فترى في هذه الفترة، يتحول السوق إلى خلية نحل، حيث تشهد البسطات نشاطاً مكثفاً. الإقبال الكبير يخلق أجواء احتفالية، والمبيعات تصل إلى ذروتها، حيث يبحث الناس عن الملابس الشعبية والبراقع وعبايات وأثواب النشل لترتدي المناسبات طابعاً تقليدياً أصيلاً. النساء في هذه الفترة يعبرن عن فرحهن ليس فقط بالمبيعات، بل بالاحتفاء بتراثهن الذي يعيش من خلال هذه المناسبات.

سوق النساء أو ما يعرف شعبيًا ببسطات الحريم ليس مجرد مكان للتجارة، بل هو مساحة للذاكرة، حيث تتداخل الألوان والرائحة مع قصص النساء اللاتي يبعن الماضي ليصبح جزءاً من الحاضر. كل قطعة تُباع، وكل عود يُشترى، هو دليل على أن التراث لا يزال ينبض بالحياة، يروي قصصاً لم تندثر، وينقل عبقها لجيل جديد.

البسطة حياة ووطن صغير

في زوايا سوق النساء، حيث تمتزج الألوان بالعطور وتتعانق الأصوات مع ضجيج الحياة، استوقفتني صورة لم تكن عابرة، امرأة تجلس خلف بسطتها، يكسو وجهها برقع قديم أخفى ملامحها لكنه لم يستطع أن يحجب حكايا السنين المنسوجة في تجاعيدها. كانت أم فهد هناك، كأنما هي جزء لا يتجزأ من المكان، كأن السوق هو امتداد لروحها. بيديها اللتين تحملان آثار الزمن، رتّبت الحناء والكحل والديرم والرشوش والسدر بعناية، وكأنها تلمس صفحات من الماضي. وحين التقت عيوننا، ابتسمت ابتسامة دافئة تحمل شيئًا من الفخر وشيئًا من الحنين، وقالت بصوت يملؤه الاعتزاز: "يا بنتي، رحلتي مع البسطات بدأت من زمن بعيد، في سوق حجاب، كنت شابة مليئة بالحيوية، ثم انتقلت لأسواق طيبة، وها أنا هنا اليوم.. بصراحة لا أستطيع حتى أن أحصي السنين التي مرت".

لم يكن السوق مجرد مكان للبيع والشراء بالنسبة لأم فهد، بل كان وطنًا صغيرًا نسجت فيه ذكرياتها، وملاذًا يمنحها الإحساس بالحياة. عندما سألتها عن عملها، رفعت عينيها لترحب بفتاة لم تتجاوز العشرين أقبلت عليها وقالت بفخر: "هذي حفيدتي تساعدني وقت المناسبات الكبيرة مثل رمضان واليوم الوطني والتأسيس.. الناس وقت هالمناسبات يحبون التراث، يشترون البخور والمعمول والملابس الشعبية. السوق يصير مليان حياة". وأثناء حديثها، التقطت إحدى العباءات المطرزة، تمرّرت أناملها عليها كأنها تستحضر تفاصيل حرفة تراثية توارثتها الأجيال. نظرت إليّ بعينين يشع منهما الصبر والقوة، وقالت: "أولادي كبروا، وقالوا لي أجلس في البيت وأرتاح.. لكني رفضت البسطة هي حياتي، هنا أشعر أن لي قيمة، أني لا زلت أنجز.. أما البيت ما فيه الا الوحدة اللي تخلي الإنسان يغرق في التفكير والقلق".

أشارت إلى بضاعتها، بين النقابات المطرزة وخلطات البخور التي تفوح رائحتها العطرة في الهواء، ثم أكملت بصوت يختلط فيه الرضا بالمعاناة: "أتمنى لو أن الجو يبقى معتدلًا دائمًا.. الحر والبرد يؤثران علينا، لكن مهما كان، أظل هنا وأقاوم. هذا مكاني. وهذا رزقي". كانت كلماتها تلخص رحلة عمر ممتلئة بالكفاح والشغف، حيث البسطة هي نافذة تطل منها على الحياة، وجسرًا يعبر بها من الماضي إلى الحاضر. وبين حركة السوق وصخب المواسم، تحيا أم فهد، تحكي ببرقعها ويديها حكاية امرأة لم تستسلم للزمن، بل جعلت منه شاهدًا على قوة إرادتها وحبها للحياة.

حكاية عطر لا ينطفئ

في زاوية ظليلة من أحد الأسواق الشعبية، انبعثت نفحات البخور الفاخر والمعمول الأصيل لتقودني إلى بسطة أم حيان. تحت مظلة صغيرة مزينة بأقمشة تراثية، وقفت أم حيان، التي تجاوزت الخمسين من عمرها، وسط علب البخور ومرشات تعطير المنازل التي تتألق بتصاميمها العصرية ونفحاتها المميزة.

بدأت أم حيان رحلتها مع صناعة البخور بعد وفاة زوجها، عندما وجدت نفسها وحيدة أمام مسؤولية إعالة بناتها الصغيرات. تعلمت فنون الخلط العطري من والدتها، وبأصابعها الماهرة بدأت إعداد منتجات بسيطة في منزلها قبل أن تقرر عرضها في السوق الشعبي. تقول مبتسمة بفخر: "كنت أقضي الليالي أخلط وأجرب حتى أصل للرائحة التي تعجب زبوناتي".

تتفنن أم حيان في استخدام مسحوق خشب العود الفاخر كعنصر أساسي لمعمولها، وتضيف الصمغ العربي لتشكيل الأقراص، برفقة مزيج من الزيوت العطرية مثل المسك والعنبر وزيت الورد. تشرح بحماس: "الماء هو السر في جمع المكونات، لكن الأهم هو جودة العود الذي أحرص على اختياره بعناية".

ورغم أن بناتها كبرن واستقللن في حياتهن العملية، إلا أنهن رفضن تعلم هذه الحرفة الأصيلة. تتحدث أم حيان بأسى مشوب بالعزيمة: "أحترم قرارهن، لكنني سأظل هنا أصنع البخور والمعمول ما دامت قدماي تحملانني". بسطة أم حيان باتت مع توالي السنوات وجهة للزبائن الذين يعودون لتبادل الأحاديث وتجربة عبير عطورها الآسر. تنشط مبيعاتها في مواسم رمضان، ومناسبات التأسيس، وحفلات المدارس الشعبية، حيث تعد منتجاتها خيارًا مثاليًا لتعطير المنازل والمناسبات.

تظل أم حيان، رغم سنوات العمل الطويلة، رمزًا للمرأة التي استطاعت أن تحول العطر إلى قصة كفاح وحياة لا تزال تفوح برائحة الأصالة والتفاني.

قصص تراث بين الثنايا

وسط صخب السوق، لفتتني بسطة تتراقص عليها ألوان الماضي. عباءات مطرزة وأثواب شعبية تحكي قصصًا من زمن الأجداد. خلف هذه البسطة وقفت أم عبدالرحمن، سيدة بدت كأنها جزء من هذا التراث الذي تعرضه، بعينيها المليئتين بالحكايات وابتسامتها التي تستقبل كل زبون بمحبة ودفء.

اقتربت منها بعد أن غادر الزبائن محملين بقطع تراثية استعدادًا للاحتفال بيوم التأسيس المقبل بدأت حديثها بحماس: "ما تتخيلين كيف بدأ مشواري! كنت في أسواق الشرقي بشرق الرياض، أبيع النقابات وأثواب الصلاة. السوق كان بسيطًا، لكنني تعلمت منه كيف أكسب حب الزبونات وأعرف احتياجاتهن".

تغيرت نبرتها وهي تتحدث عن قرارها بالانتقال إلى هذه السوق: "كان تحديًا كبيرًا، لكن الحمد لله كان القرار صائبًا. هنا الزبائن أكثر، والمبيعات أفضل. ومع الوقت اكتشفت شغف الناس بالملابس التراثية، خاصة في المناسبات الوطنية، فقررت أركز عليها". أشارت بفخر إلى ثوب مطرز بألوان زاهية وقالت: "هذا تصميم مستوحى من تراث نجد وبجانبه من منطقة الجنوب وهذه أثواب النشل، بيع هذه القطع مهو مجرد تجارة بالنسبة لي، أشعر أني أوصل جزءًا من هويتنا وتراثنا للجيل الجديد". حديث أم عبدالرحمن كان أشبه برحلة بين الماضي والحاضر، حيث صنعت من تحديات الحياة قصة نجاح تستحق أن تُروى. وترى أنها حارسة للذاكرة الشعبية، فترويها بثوب مطرز وقصة من القلب.

إرث يتحول إلى قصة كفاح

ومع حلول المساء، حيث تتناثر أضواء خافتة فوق بسطتهما البسيطة. هناك، تقف الأختان فاطمة ونورة بعزيمة لا تهدأ، تعرضان جلابيات نسائية تراثية تلائم رمضان والمناسبات العائلية، حيث تتحول تلك البسطة إلى نافذة رزق تحمل عبق الماضي وأمل المستقبل. لم تكن البداية لهما، بل كانت للأم التي أفنت سنوات عمرها خلف تلك البسطة قبل أن يقعدها مرض الروماتيزم. "كانت أمي تقف رغم آلامها، لكنها لم تعد قادرة على العمل، فقررنا أنا ونورة تولي المهمة"، تقول فاطمة بحنين يرافق كل كلمة تنطقها. رغم عدم إكمال أي منهما التعليم، فإن الأختين نجحتا في استيعاب دروس السوق والتعامل مع الزبائن بحب ومهارة. ينطلق عملهما مع انتهاء صلاة العصر وحتى الليل، حيث تجذب الأجواء المسائية زبائن متنوعين يبحثون عن قطع تراثية بلمسات أصيلة. تقول فاطمة عن طبيعة المبيعات: "البيع مواسم؛ في رمضان والأعياد نحقق مكاسب جيدة، لكن هناك شهور بالكاد نغطي فيها تكاليف البضاعة والإيجار." رغم ذلك، تستمر الأختان في تطوير منتجاتهما والبحث عن تصاميم جديدة تلبي أذواق الزبائن. نورة، الأخت الصغرى، تبتسم وهي تتحدث عن العلاقة مع الزبائن: "صاروا يعرفوننا بالاسم، وبعضهم يزورنا لمجرد الحديث حتى لو لم يشترِ شيئًا".

مثلت قصة فاطمة ونورة في هذه البسطة، رحلة حب ووفاء لوالدتهما التي غرسَت فيهما روح الكفاح. في كل قطعة تُعرض على البسطة، ينبض الأمل ويتجلى معنى الإرادة الصلبة.

ذاكرة نابضة بالحياة

وأنا أغادر السوق، ألقيت نظرة أخيرة على تلك البسطات التي لم تكن مجرد مساحات للبيع، بل مشاهد تنبض بالحياة وتحمل في طياتها قصص كفاح نساء صنعن من البساطة مصدر رزق، ومن التراث هوية تجارية متفردة. كان وداعي لهن أشبه بإغلاق صفحة من كتاب لا ينتهي، فلكل بائعة حكاية ترويها بضائعها، ولكل زاوية في السوق نكهة خاصة من الأصالة. لا تقتصر أهمية هذه الأسواق على البيع والشراء، بل هي فضاء يجمع النساء، حيث يتبادلن التجارب والخبرات، ويمتزج الماضي بالحاضر في منتجات نادرة لا تجدها في المتاجر الحديثة. إنها نافذة اقتصادية تمنح البائعات فرصة لتحقيق الاستقلال المادي، رغم تحديات الطقس، وضيق المساحات، وغياب بعض الخدمات الأساسية. لكن اللافت أن هذه الأسواق لا تزال قادرة على مواكبة العصر دون أن تفقد طابعها التقليدي؛ فقد بدأت بعض البائعات باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج، وبعضهن اعتمدت الدفع الإلكتروني لتسهيل عمليات البيع، مما يعكس روح الإصرار والرغبة في التطور. يزداد وهج هذه الأسواق في الأعياد والمناسبات الوطنية، حيث تصبح وجهة رئيسة لمن يبحث عن المنتجات التراثية والمشغولات اليدوية، وهو ما يعكس دورها في تعزيز الهوية الوطنية وحفظ الموروث الشعبي. ومع ذلك، تبقى الحاجة إلى دعم رسمي لتنظيم الفعاليات الترويجية وتحسين بيئة العمل أمرًا ضروريًا لاستمرار هذا الإرث التجاري.

وأنا أبتعد عن السوق، أدركت أن هذه البسطات ليست مجرد أكشاك متناثرة، بل ذاكرة نابضة بالحياة، تسرد فصولًا من الإصرار، وتعيد إحياء التراث بكل تفاصيله؛ مجتمع صغير تنسج فيه النساء قصصًا من العطاء والكفاح، يظل صداها حاضرًا مع كل موسم جديد.

رائحة البخور تفوح من خلطات أعدتها أيادٍ ماهرة
السوق يزدهر بشكل خاص في المواسم الكبرى
التراث لا يزال ينبض بالحياة