عندما خطر على بالي أن أكتب عن الراوية الكبير عبدالرحمن الربيعي في صفحة خزامى الصحاري بصحيفة الرياض، كان من أوائل من اتصلت بهم وسعدت بهذا الاتصال هو الأديب والمؤرخ والراوية والرائد التربوي والتعليمي عبدالرحمن بن إبراهيم البطحي -رحمه الله-؛ لأنه من أصدقاء الربيعي ومن الملازمين له لأعوام كثيرة، وكان لزامًا أن أسأله عن هذه الصلة بينه وبين الربيعي، فأرسل لي ورقتين تتحدث عن شخصية الربيعي نشرتها في حينها مع من اتصلت بهم من الرواة، وحينما سمعت صوته عبر الهاتف وحديثه انبعث إليَّ شعور بالميل إلى شخصه، فكان منسق الكلمات، مرتب الجمل، ومنظم في أفكاره، وكأنه يدرس كلماته وجمله قبل النطق بها، وكما علمت أن البطحي دقيق في معلوماته حينما يسأل، وكثيرًا ما يسأل؛ لأنه خزانة معلومات ومعارفه متنوعة، وهو مرجع في تاريخ عنيزة.

كان البطحي -رحمه الله- لا يبخل بعلمه عن سائل أو مستفسر، فقد أوقف نفسه لهذا الشأن، وكان بعيدًا عن الأضواء، وكانت مزرعته مطلة بعنيزة هي المنتدى أو الصالون الأدبي الذي يجمع أصدقاءه ومعارفه أو من قصده من خارج عنيزة، اعتكف في محراب المعرفة، وكانت هذه هي سعادته وأنسه في هذه الدنيا، يُزار كثيرًا ويزور الناس نادرًا، فكان معظم وقته مضيفاً.

ولد عبدالرحمن البطحي 1358هـ في عنيزة، وكان والده إبراهيم من أولئك الذين يتعاطون التجارة، ومنزله يرتاده أصدقاؤه من تجار عنيزة، لهذا فتح شخصيتنا عينيه على هذه الأجواء والبيئة، فهي نشأة اجتماعية، وكان لها تأثير إيجابي عليه، فمنذ ذلك الزمن وهو يحب الاجتماع بالناس ويسر ويفرح بمن يزوره، ويرى أن هذا الضيف أو الزائر هو المتفضل عليه بهذه الزيارة، وهكذا كرام النفوس لديهم هذا الخلق العالي والراقي والسامي:

تراه إذا ما جئته متهللًا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

أستاذ متميز

تأثر عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- بمجلس والده الذي كان يفتح بعد صلاة العشاء، فكان مجلسًا فيه من أهالي عنيزة ومن البادية الذين يأتون إليها لشراء ما يحتاجونه من تجارها، ومنهم والد شخصيتنا إبراهيم، لهذا كانت ذاكرة عبدالرحمن البطحي تنصت وتسجل كل ما يقال من أحاديث وحكايات وقصص من تراث عنيزة ومن هؤلاء البادية، وسواليفهم لم تكن ثقافة شخصيتنا مقتصرة على التراث الشعبي، بل كان كشكولًا في المعارف القديمة والحديثة، فكان عصاميا، ثقّف نفسه بنفسه منذ بواكير شبابه حتى آخر لحظات عمره، درس شخصيتنا الابتدائية والمتوسطة ونال شهادتهما عام 1377هـ ثم لظروف خارجة عن إرادته ورغبته ترك الدراسة، ثم بعدها بزمن عُيّن مدرسًا في المدرسة العزيزية بعنيزة ودرّس الكثير من أبناء بلدته الذين كبروا فيما بعد وكبرت معهم مناصبهم، ولم ينسوا أستاذهم المتميز المبدع المثقف التربوي الذي طالما أمدهم بتوجيهاته التربوية، فكانوا يزورونه أيام الأعياد وفي غيرها من المناسبات في مزرعته مطلة.

رافد كبير

ولم يكمل عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- دراسته، لكن منحه الله عقلية تستوعب الثقافات الأخرى، فكان يسمع ويقرأ ويطالع ويهضم ما حصله من فكر وثقافة ومعرفة، وكانت رحلته إلى بيروت والقاهرة اللتين كانتا تعجان بالأدباء والمفكرين وفي زواياها خزائن الكتب والصحف والمجلات رافداً كبيرًا ونهرًا متدفقًا، أخذ يرتوي منه؛ لأنه جاء برغبة عارمة لتطوير ذاته وعقليته من هذه الثقافات التي تفتقر بلدته منها، وهناك أسماء في سماء الثقافة العربية بل عمالقة في الأدب وأساطين في الفكر لم ينالوا الشهادات ولا مناصب قيادية، ولعل أجل مثال وأظهره العلامة عباس العقاد -رحمه الله- الذي لم يتجاوز الشهادة الابتدائية وترك للفكر العربي مكتبة تحتوي أنواعًا من الأدب والنقد والدراسات الفكرية وأصبحت مؤلفاته لا يستغنى عنها أي مثقف عربي أو قارئ، وهذا أديب العربية العبقري مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- كانت وظيفته صغيرة جدًا ومتواضعة، في محكمة، ومؤلفاته شرقت وغربت في العالم العربي، والعالم المحقق محمود شاكر لم يكمل دراسته الجامعية، فأعلى شهادة تحصل عليها هي الثانوية العامة ونتاجه الأدبي قد ملأ المكتبة العربية وهو من أئمة اللغة العربية في القرن العشرين، والأسماء ليست قليلة في عالمنا هذا الذين ملأوا الدنيا اختراعات خدمت البشرية وهم ليسوا من ذوي الشهادات، وأشهرهم في هذا الميدان أديسون المخترع الأميركي الذي طرد من المدرسة وهو صاحب المخترعات أعظمها المصباح الكهربائي، فحصيلة الزاد الثقافي والمعرفي والخبرات كلها اكتسبها شخصيتنا من تلقاء نفسه، ولأنه عالي الهمة لا يرضى بالدنايا، كانت نفسه تواقة لكل مفيد وتحب أن تكون لديها إلمام لشتى المعارف العامة المتوفرة.

لبنان جئتك

وكانت لرحلة عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- إلى بيروت تأثير إيجابي أبان عصر بيروت الذهبي، حيث قرأ لأدباء بيروت، ومن أشهرهم المبدع الناقد الساخر مارون عبود، فكُتب عبود ودراساته في الأدب الحديث والقديم تعد محطة لا بد للمثقف العربي أن يتوقف عندها، وقد توقف عندها شخصيتنا، ولا ننسى أدباء المهجر أمثال أمين الريحاني ونعيمة وجبران خليل جبران وأدباء آل معلوف واليازجي والبستاني، وقد تعرف البطحي على الأديب مارون عبود في رحلته الأولى إلى بيروت، وكان في خريف عمره، ويذكر أن شخصيتنا قد اصطحب معه كتابين هما جواهر الأدب للسيد أحمد الهاشمي وكتاب ديوان الرصافي خشية ألا يجدهما، وكان حينما يتذكر هذا الموقف يضحك.

وروى لنا الكاتب المؤرخ محمد القشعمي في مقاله له عن البطحي بعنوان: «القاموس المفتوح» بيتين من الشعر لشخصيتنا يجسد موقفه حينما اصطحب معه الكتابين المذكورين وهما:

لبنان جئتك مصحوبًا بمكتبتي

هما كتابان لا عد ولا عددُ

أهديك أيهما فأقبل مجاملتي

إن الكرام إذا ما كفئوا حمدوا

نص صريح

وفي كتاب (الظل المضيء) الذي نشرته جمعية واحة الوفاء لمساندة كبار السن بعنيزة، وهو يحكي سيرة عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- وماذا قال عنه محبوه وأصدقاؤه وتلامذته؟، ومنه استفدت في كتابة هذه السطور، احتوى نصا صريحا من شخصيتنا يكشف فيه بوضوح خطته ومنهجه في القراءة وعالم الكتاب قائلًا: «لم أدع مذهباً أو أيدلوجية معروفة عالمياً، إلاّ قرأتها وحاولت أن أتفهم معناها وغايتها على مدى أربعين عاماً، وناقشت فيها ودافعت عن الجوانب الحسنة فيها، حسب رؤيتي الخاصة، وأبديت رأيي في جانبها السلبي، وهذه الطريقة الموضوعية في التعامل مع الأفكار، تدفع البعض إلى الاعتقاد أنك يا من تؤكد جانباً إيجابياً في فكرة أو نظرية هو مضاد لها -وغالباً هو لا يفهمها- تدفعهم إلى نسبك لهذه الفكرة أو النظرية، لذلك فقد نُسبت من قبل هذا البعض مما لا أعرفهم، ولم ألتق بهم، أو أناقشهم أو يناقشوني في يوم من الأيام، إنهم من النوع الكريم جداً في إهداء الإساءة لغيرهم، وأنا لا ألومهم فهم أبناء بيئتهم».

وذكر الكاتب صالح المرزوقي في حديث له عن عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- قائلًا: لقد كان ممتعًا في الحديث، مبدعًا في الحوار والجدل، لذا نجد الكثير ممن يجلسون معه للمرة الأولى ينبهرون من هذه الموهبة التي يتمتع بها.

بسيط وسهل

ومن الشخصيات التي زارت شخصيتنا رونالد كول، وهو أميركي الجنسية أشهر إسلامه فيما بعد وغير اسمه إلى عبدالله طالب، وقد كانت دراسته في العلوم الاجتماعية، لندع هذا البروفيسور يصف هذا اللقاء مع البطحي: «تعود معرفتي بالمؤرخ عبدالرحمن البطحي إلى أكثر من ثلاثين عاماً، حينما زرت المملكة لأول مرة عام 1968م، وكنت حينذاك أقوم بإعداد دراسة في العلوم الاجتماعية، وكان لي صديق يعمل مدرساً للغة الإنجليزية هو مستر جيمس الذي كان على علاقة جيدة بعبدالرحمن البطحي، وقال لي مستر جيمس: لا يمكن إتمام دراستك إلاّ بعد التعرف على البطحي، وذهبت معه إلى عنيزة حيث يقيم، وكان البطحي رجلاً معروفاً في عنيزة والمملكة بأسرها، وكان يحيط به دوماً أصدقاء كثيرون، كانوا يناقشونه في كل شيء، ويستفيدون من علمه الغزيز في مختلف المعارف والعلوم، وذهبنا أنا وصديقي جيمس إليه في منزله واستقبلنا استقبالاً رائعاً ثم أخذنا معه إلى مزرعته التي يفضل الجلوس بها، وهناك تناقشنا في العديد من الموضوعات مثل التاريخ والفلكلور الإنساني والمجتمع السعودي، ووجدته رجلاً موسوعياً، ومؤرخاً حقيقياً، مفكراً راصداً بدقة للمتغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السعودي، كل ذلك في أسلوب بسيط، وسهل وسلس، وكنت أشعر وأنا جالس معه أنه المثقف الكبير، يحب البحث والدراسة والتعلم، ولا يبخل بعلمه على أحد، كما أنه كان كريماً إلى أقصى حد، كما ناقشت معه العديد من القضايا التي كانت تشغل بالي في دراستي الأكاديمية، فوجدت لديه علماً غزيراً، واستفدت منه كثيراً، ومنذ هذا اللقاء صرنا أصدقاء، وأصبح هو علامة لا ينسى في ذاكرتي، وواحداً من علماء عنيزة والمملكة المتميزين، وخرجت من هذه الزيارة وأنا أحمل إعجاباً كبيراً بهذا الرجل، وكنت شغوفاً بمتابعته بعد ذلك».

سقراط عصره

وصوّر أحد تلاميذ عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- الذين درّسهم في المدرسة العزيزية بعنيزة، وهو التربوي الأديب إبراهيم الخويطر العلاقة بين الأستاذ والتلميذ حيث قال: كنت لنا خير معلم، فقد علمتنا ما لم تعلمه لنا المدارس، لقد كنت سقراط عصرك، علمتنا الحوار وفن المناقشة في البحث عن الحقيقة، قلت لكل منا اعرف نفسك، لم تقلها لفظًا كما قالها سقراط وإنما ترجمتها إلى معنى -انتهى كلامه-.

ومن الأمور التي اكتشفت في البطحي أنه ليس شخصية نمطية، لا تتغير، بل كانت له عدة شخصيات، وأقصد بذلك تعدد المواهب والاهتمامات، فهو في الصباح معلم تربوي قيادي في مدرسته، وبعد الدوام الرسمي ينطلق في عالمه ويحلق في أجواء هذا العالم فتراه مؤرخا وباحثا في علم الاجتماع، وجغرافي ورحالة يصف لك الوديان والشعاب والفيافي، ثم نجده كذلك يتحدث حديث المفكرين والفلاسفة، كانت له عقلية تستوعب كل شيء مفيد، فهو قارئ حتى النخاع، لكنه قارئ ناقد وحصيف وفطن ولماح، يقرأ ما بين السطور، فهو يقرأ ويحلل أيًا كانت هذه القراءة، وليت هذه الحصيلة الضخمة والذخيرة الهائلة كان نتاجها مؤلفات تنهل منها الأجيال، فشخصيتنا له فلسفة خاصة في التأليف، وله آراء ونظريات لا يلزم بها أحد، لكنه يطرحها كيف وهو يقدس الحوار والمناقشة وعدم مصادرة الرأي الآخر.

منتدى وصالون

ومطلة مزرعة عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- بعنيزة هي المنتدى والصالون الذي يستقر فيه، كان هذا المنتدى أدبي ثقافي اجتماعي شبه يومي، يطرح فيه الكثير من الأدب سواء العربي أو الشعبي أو في التاريخ أو أي فنون أخرى، وكان يأخذ بزمام المنتدى، فهو فارسه، يذكر د. عبدالرحمن السماعيل هذا الصالون اليومي وكان من الذين قد حضروه قائلاً: كان مجلسه يبدأ قبل صلاة المغرب كل يوم، ويمتد إلى ما بعد العشاء، وكان يدور في تلك اللقاءات نقاشات طويلة في كل الاهتمامات، تكشف معه اطلاعه على مجالات الفكر والثقافة العربية القديمة والحديثة والثقافة الشعبية وتاريخ جزيرة العرب -انتهى كلامه-.

وفي منزل البطحي بالمسهرية، كان له فيه جلسة يومية قبل خمسين عاماً، وكانت تبدأ من بعد صلاة العشاء ثم انتقلت إلى مزرعته مطلة.

راعي البندق

وكما قلت أن عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- لم يكتب مؤلفات، لكنه كتب نبذة لطيفة عن الشاعر المشهور علي الخياط -رحمه الله-، وكان قد أرسل ليَّ هذه النبذة قبل وفاته، ثم زودني بها مرة أخرى الباحث عبدالله البطحي -عبدالرحمن البطحي عمّه-، وهي النسخة الأخيرة التي اعتمدها شخصيتنا وهي بعنوان (البطحي يقدم راعي البندق الخياط)، وهذه النبذة قد حقق ودقق فيها عن تاريخ هذا الشاعر وأسرته وأخباره، وكشف عن الكثير من حياته المجهولة لدى كثير من الباحثين والقراء، وكتب هذه النبذة بشكل منهجي دقيق، أثبت مصادره ثم ختم هذه النبذة بقصيدة له شعبية تذكر مآثر أهالي عنيزة حتى تاريخ 1322هـ، وذكر الباحث عبدالله البطحي أن شخصيتنا كان قد بدأ في تحقيق المخطوطة النجم اللامع للمؤرخ الرواية محمد العبيّد لكنه فاجأه عارض صحي منعه من مواصلة تحقيق المخطوطة، لكنه أخرجها؛ لأنه كان ملازمًا للرواية محمد العبيّد.

هذه سطور عن الأديب المفكر الموسوعي عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- ابن عنيزة البار، الذي ظل طوال عمره يُعطي بسخاء لمجتمع عنيزة وخارجها من عطائه العلمي والأدبي والتراثي الذي اختزنته في ذاكرته المليئة بالمعلومات، توفي رحمه الله عام 1427هـ.

أشكر الباحث عبدالله البطحي على تزويدي بالكتاب الذي أُصدر عن حياة شخصيتنا بعنوان (الظلُ المضيء)، ونبذة شخصيتنا عن الشاعر علي الخياط.

عبدالرحمن بن إبراهيم البطحي -رحمه الله-
البطحي في شبابه
البطحي كتب نبذة عن الشاعر المشهور علي الخياط -رحمه الله-
عبدالرحمن البطحي امتلك عقلية استوعبت الثقافات الأخرى
إعداد- صلاح الزامل