تظل العلاقات السعودية - البريطانية عميقة ومتجذرة، منذ أن أرسى قواعدها ودعائمها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- ودولة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، خلال اللقاء التاريخي الذي جمعهما، في السابع عشر من شهر فبراير 1945م.

منذ ذلك الوقت، تشهد العلاقات تطورًا متناميًا في جميع المجالات، بما يحقق المصالح المشتركة للبلدين وشعبيهما الصديقين، حيث يرتبطان بعلاقات تاريخية، تستند إلى المبادئ والمصالح المشتركة، والرغبة المتبادلة في تعزيز وتطوير هذه العلاقات، وفق سياسة خارجية ترسخ مبدأ العمل المشترك وتوافق وجهات النظر، وتوثيق التعاون الثنائي في جميع المجالات لا سيما الجانب الاقتصادي في إطار رؤية المملكة 2030، ودبلوماسيتها الحكيمة المتوازنة، أكد على ذلك أن التنسيق السياسي المستمر بين قيادتي البلدين على أعلى مستوياته، عكسته الزيارات الرسمية المتبادلة خلال السنوات الأخيرة بين المملكتين، وتدعيم أواصر الصداقة، والثقة الوطيدة والعلاقات التجارية والاقتصادية القوية، والتوافق في ملفات كبيرة منها الالتزام بحماية المناخ، ومكافحة الإرهاب على الصعيد الدولي. 

وتكمن أهمية زيارة دولة السيد كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني للمملكة ولقائه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- في كونها الأولى لدولته منذ توليه منصبه، وفي تزامنها مع ما تشهده المنطقة من تطورات للأوضاع في قطاع غزة، ولبنان، والتوترات الإقليمية مما يستوجب التشاور وتنسيق الجهود بين قيادتي البلدين بما يعزز أمن واستقرار المنطقة.

تتشارك المملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة القلق البالغ حيال الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، وما يشهده القطاع من حرب وحشية راح ضحيتها أكثر من (150) ألفاً من الشهداء والمصابين من المدنيين الأبرياء نتيجة للاعتداءات الشنيعة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، حيث يدعم البلدان الجهود الرامية للوصول إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية وفقاً لمبدأ حل الدولتين، ومبادرة السلام العربية، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، بما يكفل للشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة في حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.

إن زيارة دولة رئيس الوزراء البريطاني السيد كير ستارمر والوفد المرافق له للمملكة، تعكس تقدير الحكومة البريطانية لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظه الله- ومكانة المملكة السياسية والاقتصادية، وثقلها الدبلوماسي ودورها المحوري على المستويين الإقليمي والدولي، وحرص قيادات الدول الكبرى على التشاور مع القيادة الرشيدة، حول مستجدات الأحداث إقليمياً ودولياً، حيث يشهد العالم حالة من عدم الاستقرار والصراعات المتنامية، التي تستدعي التشاور مع القوى الكبرى في العالم، للحيلولة دون اتساع رقعة الصراع، والعمل على وقفها، لإرساء مبادئ السلم العالمي، بما يحفظ للدول استقرارها وازدهارها.

لقد أسهمت زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظه الله- للمملكة المتحدة في العام 2018م، في توسيع نطاق التعاون وتنمية العلاقات بين البلدين، إذ أُطلق خلالها مجلس الشراكة الاستراتيجية السعودي - البريطاني، وأثمرت هذه الشراكة الاستراتيجية في نمو التجارة البينية بين البلدين بأكثر من 30 % منذ 2018م حتى 2023م، محققة 103 مليارات دولار.

أسهمت تلك الزيارة في تعزيز العلاقة الوطيدة بين المملكتين، بما يدعم التبادل والتعاون المشترك في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والمعرفية، وأكدت على عمق التفاهم المشترك بين البلدين الصديقين، وأسهمت في نقل ما تحمله رؤية المملكة 2030 من أفكار ورؤى سياسية واقتصادية رائدة، خاصة للذين يرغبون في الاستثمار بالمملكة، حيث تتبنى الانفتاح على الاقتصادات المتقدمة لإحداث تغيير جذري للاقتصاد السعودي، وإعادة هيكلة قطاعاته وتنويع مصادره وتوجهاته، حتى تصل المملكة العربية السعودية إلى مرحلة تقليل الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل الوطني، وهو ما اتضح من خلال توقيع مذكرات تفاهم مع عدد من الكيانات الاقتصادية البريطانية المتخصصة في الصناعات غير النفطية خلال زيارة سمو ولي العهد، وأكدت على الرغبة المتبادلة من قطاعي الأعمال في البلدين نحو تعزيز وتطوير هذه العلاقات وتنميتها بصورة مستمرة في مختلف الجوانب بما فيها الجوانب الاقتصادية والمعرفية والثقافية، فضلاً عن العمل على زيادة الفرص الاستثمارية وتشجيعها وتطوير حجم التعاون القائم بينهما.

لكل ما تقدم يسعى البلدان إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما عبر مجموعة من الاستراتيجيات الاستثمارية والفعاليات، من بينها "منتدى الشراكة والأعمال السعودي - البريطاني" الذي يهدف إلى تحفيز التواصل والزيارات المتبادلة بين رجال الأعمال في البلدين، وتذليل العقبات أمام القطاع الخاص، للتوسع في المشاريع القائمة وضخ استثمارات جديدة، حيث تعد المملكة المتحدة ثاني أكبر مستثمر أجنبي في السوق السعودية بنحو 16 مليار دولار، ويعمل في المملكة أكثر من 1139 مستثمراً بريطانياً، كما افتتحت 52 شركة بريطانية مقرات إقليمية لها في الرياض، وتطلع البلدين لمزيد من تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارية، خاصة في ظل ما تملكه المملكة من مقومات في جميع المجالات، وثروات تعدينية، وخبرات وطفرات في مجال الطاقة النظيفة والمتجددة، التي تسعى الدولتان فيها إلى مزيد من التعاون والشراكة في اقتصاداتها التي يحتاجها العالم.

ونتيجة للعلاقات المتميزة بين البلدين الصديقين، كان تقدير المملكة المتحدة لاستضافة المملكة للقمة العربية الإسلامية غير العادية، وقيادتها الجهود المبذولة لخفض التصعيد في فلسطين، وترؤسهااللجنة الوزارية العربية الإسلامية بشأن التطورات في غزة، وجهودها المبذولة لإطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وإطلاق (التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين)، الذي استضافت المملكة اجتماعه الأول، بهدف تعزيز العمل الدولي المشترك لتحقيق السلام في المنطقة، والدعوة إلى تحقيق السلام في العالم، ودعمها لحق الشعوب في تقرير مصيرها والحق الأكبر في العيش بسلام داخل أوطانهم، وتحقيق طموحاتهم وآمالهم، كما ثمّن الجانب البريطاني دور المملكة في دعم توازن أسواق النفط العالمية واستقرارها، وفي موثوقية الإمدادات بصفتها مُصدراً رئيساً للنفط الخام، ويحرص البلدان الصديقان على تعزيز تعاونهما الاستراتيجي في مختلف مجالات الطاقة، بما في ذلك مجال الطاقة النظيفة والتعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي، والتعاون التقني في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وجذب الاستثمارات البريطانية في مشروعات الطاقة المتجددة في المملكة، والاهتمام المشترك بين البلدين في إنشاء معهد دولي مشترك بين السعودية وبريطانيا للهيدروجين النظيف، إضافة إلى التعاون في الاستثمار التجاري في مجال ألياف الكربون بين شركة Graphene Innovation في مانشستر مع مشروع NEOM Gigaالسعودي، الذي يحظى باهتمام عالمي، لما لهذا التوجه في تعزيز تقنيات الطاقة المتجددة والنظيفة، ويؤكد على الرؤية المشتركة في مجالات الطاقة المتجددة، ودعم الاقتصادات غير النفطية.

وكان السفير البريطاني بالرياض قد أبدى إعجابه بما حققته المملكة خلال السنوات الأخيرة، واصفاً ما يحدث في السعودية من تغيرات ثقافية واجتماعية بأنه «مُلهم ورائع» بكل المقاييس، وما رآه من إنجازات تنفذ على أرض الواقع كل يوم، ما هو إلا دليل على عزيمة السعوديين وطموحهم، مبيناً أن العلاقات الثنائية حالياً هي أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى، حيث ترتبط الدولتان بعلاقة تاريخية عميقة، تستند إلى إرث تاريخي طويل من العمل المشترك على الصعيد الدبلوماسي، إضافة إلى علاقات عسكرية وأمنية وثيقة، وروابط اقتصادية وتجارية قوية، مشيراً إلى تطوير العلاقات في السنوات الأخيرة وتم تطويرها لتصبح شراكة استراتيجية مهمة، وبالتالي العمل المشترك لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، وفي مقدمتها التغير المناخي، ومعالجة قضايا التنمية في إفريقيا وجنوب آسيا وغيرها من القضايا، إضافة إلى التعاون الدبلوماسي لإيجاد حلول للتحديات الإقليمية الملحة، مثل الأزمة في السودان واليمن، وحالياً في سورية وغيرهم، إلى جانب التعاون على الصعيد العالمي والعمل على وقف الصراع بين روسيا وأوكرانيا، إلى جانب العمل على تحقيق الأمن الغذائي في العالم.

لقد عكس مؤتمر (GREAT Futures) الذي استضافته المملكة في مايو 2024م، جهود البلدين لتعزيز وتوسيع شراكتهما الاقتصادية، حيث شهد المؤتمر حضور 2200 من المعنيين بالشأن الاقتصادي من الجانبين السعودي والبريطاني، منهم نحو 450 من أصحاب الأعمال البريطانيين، وتم خلال المؤتمر عقد أكثر من 20 اجتماعاً وزارياً ثنائياً، وتوقيع 13 اتفاقية، ومناقشة سبل تطوير التعاون في 13 مجالاً اقتصادياً، أبرزها: السياحة، والثقافة، والتعليم، والصحة، والرياضة، والاستثمار، والتجارة والخدمات المالية، والعديد من المجالات الأخرى التي تحظى باهتمام الجانبين على الصعيدين السياسي والشعبي.

وتبرز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين حقيقة التطور والتعاون في مجال البنية التحتية، حيث نظما في شهر يونيو (2024م) "قمة البنية التحتية المستدامة"؛ لاستعراض فرص الشراكة في تنمية المدن المستدامة وتقنيات الطاقة الخضراء، وقد وفرت القمة منصة لاعتماد وتبادل المعرفة المكتسبة من رؤية المملكة 2030، وشكلت نموذجاً عالمياً للتعاون في مجال التنمية المستدامة، إضافة لذلك شهد التعاون في المجال السياحي بين البلدين تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، ويتجلى ذلك في توقيع الهيئة السعودية للسياحة و(Visit Britain) اتفاقية "بيان نوايا مشترك" لتعزيز التعاون بينهما وتبادل الخبرات، كما أصبحت المملكة وجهة للسياح البريطانيين، إذ استضافت في الربع الأول من العام الحالي 2024م، أكثر من 165 ألف زائر من المملكة المتحدة وأصدرت أكثر من 560 ألف تأشيرة إلكترونية، حيث شهد شهر يونيو من عام 2022، تطبيق نظام إلكتروني للإعفاء من التأشيرة، يسمح بموجبه للسعوديين التقدم للحصول على تأشيرة عبر شبكة الإنترنت.

إن المجالات التي تجمع الدولتين كثيرة ومتنوعة ومتشعبة، من بينها التعاون في الشأن العلمي والبحثي والأكاديمي، حيث يجمع المملكة والمملكة المتحدة روابط تعليمية وثقافية قوية، إذ يبلغ عدد الطلاب المبتعثين السعوديين الدارسين في الجامعات البريطانية حوالي 14000 طالب وطالبة، كما تخطط جامعة (ستراثكلايد) لتصبح أول جامعة بريطانية تُنشئ فرعاً لها داخل المملكة، بالتعاون مع جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن.