في حين يستعد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لتطبيق تغييرات جذرية في سياسة الهجرة، يخضع حق المواطنة بالولادة للتدقيق من قبل أنصاره، وهو ما عبر عنه ترمب خلال أول مقابلة يجريها منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية، مع شبكة "إن بي سي"، حيث قال: "يتعين علينا وضع حد لهذه الظاهرة. إنها سخيفة"، لكن محاولات إنهاء منح الجنسية تلقائياً لأي شخص يولد في الولايات المتحدة ستواجه بعقبات كبيرة، لأن هذا الأمر منصوص عليه في الدستور الأميركي الذي يمنح أي شخص يولد على الأراضي الأميركية صفة مواطن أميركي، بغض النظر عن جنسية والديه أو وضعه في الهجرة.
التوظيف السياسي
خلال الانتخابات الرئاسية، وظف أنصار ترمب هذه القضية سياسياً بشكل أثار الغبار حول غريمته الديمقراطية، حيث أشاعوا أن كامالا هاريس غير مؤهلة لأن تكون رئيسة للولايات المتحدة، لأن أياً من والديها لم يولد في الولايات المتحدة، وكان وضع جنسياتهم غير واضح عندما ولدت هاريس في كاليفورنيا، عام 1964، ويعتبر جون إيستمان، المستشار القانوني السابق لترمب أول من روج لهذا الادعاء، لكن أساتذة القانون الأميركيين ذكروا أنه لا أساس لهذا الادعاء من الصحة، وأكدوا أن هاريس مؤهلة لتولي المنصب، لأنها مولودة في الولايات المتحدة، ومكان ميلاد أي من والديها لا يؤثر على جنسيتها الأميركية المكتسبة بمجرد الولادة، إلا أن عملية التوظيف السياسي استمرت، حتى زعم البعض أن هاريس لم تولد في الولايات المتحدة، مما اضطر جهات التوثيق لمراجعة شهادة ميلادها، حتى تأكد أنها ولدت في مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا.
جدل تاريخي مستمر
من جهة أخرى، يعتزم بعض الأعضاء المحتملين في فريق ترمب الرئاسي، بما في ذلك المستشاران المناهضان للهجرة ستيفن ميلر وتوماس هومان، التوقف عن إصدار وثائق الهوية الفيدرالية مثل بطاقات الضمان الاجتماعي وجوازات السفر للأطفال المولودين في الولايات المتحدة لأبوين مهاجرين غير موثقين، وتعكس هذه الخطوة جدلاً تاريخياً مستمراً منذ مائتي عام حول من يحق له أن يكون مواطناً أميركياً، وقد تركزت المناقشات في التاريخ الأمريكي حول من يحصل على الجنسية، على أسئلة تتعلق بالانتماء العرقي، وجدلية الوضع التاريخي للأمريكيين الأصليين، والأمريكيين من أصل أفريقي، وتقييد الهجرة الصينية إلى الولايات المتحدة.
إلا أن المحكمة العليا أيدت وجهة نظر توسعية بشأن حق المواطنة بالولادة، ففي حكم أصدرته عام 1898، قضت بأن الأطفال المولودين في الولايات المتحدة لأبوين مهاجرين هم مواطنون أميركيون، بغض النظر عن أصول والديهم، وقد أرسى هذا القرار شروط الجدل الحالي، حيث زعم العديد من الزعماء الجمهوريين، وكذلك نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس، أنهم يمتلكون السلطة لإلغاء أكثر من قرن من القانون الدستوري والسياسات الفيدرالية وإنكار حق المواطنة بالولادة.
الجنسية بالميلاد
قبل الحرب الأهلية الأميركية في الفترة من عام 1861 إلى 1865، كانت الولايات المتحدة تتبع الممارسة الإنجليزية المتمثلة في منح الجنسية للأطفال المولودين في البلاد، ولكن في عام 1857، قضت المحكمة العليا في قضية دريد سكوت ضد ساندفورد، أن الأشخاص من أصل أفريقي الذين يعيشون في الولايات المتحدة، سواء أحراراً أو عبيداً، وبغض النظر عن مكان ميلادهم ليسوا في الواقع مواطنين أميركيين، ولكن، بعد الحرب الأهلية، رفض الكونجرس قرار قضية دريد سكوت صراحة، من خلال إقرار تشريع يلغي حكم كتابة التعديل الرابع عشر للدستور، والذي نص على أن "جميع الأشخاص المولودين أو المجنسين في الولايات المتحدة، والخاضعين لولايتها القضائية، هم مواطنون للولايات المتحدة والولاية التي يقيمون فيها".
وقد شملت هذه اللغة الواسعة عمداً أكثر من مجرد الأشخاص الذين تحرروا من العبودية في نهاية الحرب الأهلية، فخلال المناقشة التشريعية، قرر أعضاء الكونجرس أن التعديل يجب أن يشمل أطفال لمجموعات غير البيضاء الأخرى، مثل المهاجرين الصينيين وأولئك الذين تم تحديدهم على أنهم "غجر"، ولكن هذه النظرة الشاملة للمواطنة كانت تنطوي على غموض لم يوضحه القضاة بعد، وهي عبارة: "الخاضع لولايتها القضائية"، ففي عام 1884، اضطرت المحكمة العليا إلى تفسير هذه الكلمات عند البت في قضية مواطن أمريكي أصلي أراد أن يصبح مواطناً، وتخلى عن عضويته في القبيلة وحاول التسجيل للتصويت.
فبتلك القضية، حكم القضاة بأنه على الرغم من أن جون إلك قد ولد في الولايات المتحدة، إلا أنه ولد في محمية كعضو في قبيلة أمريكية أصلية، وبالتالي كان خاضعًا لسلطة القبيلة عند ولادته، وليس لسلطة الولايات المتحدة، وبهذا حكموا بأنه لم يكن مواطنًا، وفي عام 1887، أقر الكونجرس قانونًا ينشئ طريقًا للحصول على الجنسية لبعض الأمريكيين الأصليين على الأقل؛ ولم يستغرق الأمر سوى عام 1924 حتى تم الاعتراف بجميع الأمريكيين الأصليين المولودين على الأراضي الأمريكية كمواطنين.
وأصبح نص التعديل الرابع عشر قضية مثيرة للجدل في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان الكونجرس والمحكمة العليا يقرران كيفية التعامل مع المهاجرين من الصين، وكان قانون صدر عام 1882 يحظر على المهاجرين الصينيين المقيمين في الولايات المتحدة أن يصبحوا مواطنين متجنسين، ومع ذلك، قضت محكمة كاليفورنيا في عام 1884 بأن أطفال هؤلاء المهاجرين المولودين في الولايات المتحدة هم مواطنون.
في عام 1898، تناولت المحكمة العليا هذه المسألة في قضية الولايات المتحدة ضد وونغ كيم أرك، وحكمت في النهاية بأن الأطفال المولودين في الولايات المتحدة كانوا، وفقًا لشروط التعديل الرابع عشر، "خاضعين لولاية" الولايات المتحدة، طالما لم يكن آباؤهم يخدمون في بعض الوظائف الرسمية كممثلين لحكومة أجنبية وليسوا جزءًا من جيش غازٍ، وكان هؤلاء الأطفال مواطنين أمريكيين عند الولادة ، وقد صدر هذا الحكم في ذروة المشاعر المعادية للصين، والتي دفعت الكونجرس إلى تأييد فكرة أن الهجرة نفسها قد تكون غير قانونية.
في عام 2018، رفع العديد من المدعين دعوى قضائية للاعتراف بهم كمواطنين أميركيين، مشمولين ببند التعديل الرابع عشر الذي ينص على أنهم ولدوا "داخل" الولايات المتحدة وبالتالي مواطنون، وحكمت المحكمة الجزئية لصالح المدعين، لكن محكمة الاستئناف الأميركية ألغت الحكم، وحكمت بأن الكونجرس يجب أن يتصرف لتوسيع نطاق الجنسية للمقيمين، وقد اشتعلت مناقشة جديدة حول ما إذا كان الكونجرس يملك سلطة تغيير حق المواطنة بالولادة، ومن المؤكد أن جهود ترمب المرتقبة في تغيير حق المواطنة بالولادة سوف تثير تحديات قانونية.
وهكذا، فإن ترمب ليس سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من الساسة الذين اعترضوا على حقيقة أن المهاجرين من أميركا اللاتينية الذين يأتون إلى الولايات المتحدة دون إذن قانوني يمكنهم إنجاب أطفال يحملون الجنسية الأميركية، ويرى أغلب أساتذة القانون، أن الادعاءات القائلة بأن القواعد المعمول بها يمكن تغييرها لا أساس لها من الصحة، وقد استمرت المحاكم الأميركية في تأييد تاريخ طويل من حق المواطنة بالولادة، ولكن إذا واصلت إدارة ترمب جهودها من أجل إنهاء منح الجنسية تلقائياً بمجرد الولادة في الولايات المتحدة، فمن المرجح أن تصل المسألة إلى المحكمة العليا مرة أخرى.
مغزى القضية
هناك مغزى حقيقي من وراء إثارة هذه القضية، وهو أنها تأتي في سياق هجمة ممنهجة ضد المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة، ومناخ عام يسوده الغضب ضد المهاجرين، حيث يلقى الرئيس ترمب باللوم على المهاجرين في زيادة معدلات الجريمة وارتفاع تكاليف السكن، ولهذا، تعهد الرئيس المنتخب بإغلاق الحدود الجنوبية، وترحيل ما يقرب من 13 مليون مهاجر ممن لا يملكون تصريحاً قانونياً للبقاء في الولايات المتحدة، كما أن التصدي لقانونية الجنسية بمجرد الولادة، ترسل رسالة واضحة إلى المهاجرين المحتملين مفادها أن عليهم تجنب المخاطر المترتبة على الهجرة إلى الولايات المتحدة دون تصريح، فضلاً عن التكاليف الباهظة للوصول إلى هناك.
تتطلب استراتيجية ترمب في تثبيط المهاجرين عن القدوم إلى الولايات المتحدة استثمارًا فدراليًا كبيرًا في حماية الحدود والتنسيق من دول أخرى، وخاصة المكسيك، فعلى مدى ثلاثون عاماً، زادت ميزانية حرس الحدود أكثر من سبعة أضعاف، وتضاعف عدد الحراس المتمركزين على طول الحدود الجنوبية الغربية أربع مرات، كما قامت الحكومة الأميركية ببناء جدران حماية لمنع المهاجرين من دخول البلاد، بما في ذلك الجدران الضخمة التي تمتد إلى المحيط الهادئ، وفي المناطق النائية، تقوم الطائرات بدون طيار وموظفو أبراج المراقبة بمراقبة الحدود،مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عواقب مميتة بالنسبة للمهاجرين.
حتى عام 2011، كانت الغالبية العظمى من المتسللين غير الشرعيين إلى الحدود من المكسيكيين، ومعظمهم من الشباب الذين يسعون إلى الحصول على دخول مادية أعلى لدعم أسرهم، ولكن، مع تعافي الاقتصاد المكسيكي ودخول عدد أكبر من الشباب إلى سوق العمل، أصبح العمال المكسيكيون أقل حاجة إلى الهجرة، واليوم، نجد أن أكثر من 60 % من المهاجرين الذين يعبرون الحدود الأميركية دون تصريح قانوني هم من بلدان أخرى غير المكسيك، بما في ذلك أميركا الوسطى، وفنزويلا، والإكوادور، وهايتي، و40 % منهم آباء يسافرون برفقة أطفالهم.
يهرب غالبية المهاجرين من العنف والقمع في بلادهم، أو الفساد المستشري، والكوارث الطبيعية، أو الانهيار الاقتصادي، وبالنسبة للمهاجرين، فإن الأمر يستحق المخاطرة، حيث يتعرضون أحياناً للاختطاف، والموت في الصحراء، أو الترحيل هربًا من وضع بائس، ورغم أن الردع الأميركي لم يوقف المهاجرين، فإنه أدى إلى إثراء المهربين والمسؤولين الفاسدين الذين يستغلون المهاجرين الضعفاء في طريقهم إلى الحدود الأميركية، وبحسب التقديرات، ارتفعت عائدات التهريب في الأميركتين من 500 مليون دولار في عام 2018 إلى 13 مليار دولار في عام 2023، حيث تحول المجرمون من الاتجار بالمخدرات، إلى التركيز على تهريب المهاجرين، حيث يتقاضى هؤلاء آلاف الدولارات على تسهيل عملية الدخول غير الشرعي.