في عالم يعاني من أزمات المياه المتزايدة، برزت المملكة كنموذج عالمي رائد في الإدارة المتكاملة للموارد المائية، حيث استطاعت أن تحوّل تحدياتها الطبيعية إلى فرص للتنمية المستدامة، وذلك عبر سياسات طموحة واستثمارات استراتيجية تهدف إلى تحقيق الأمن المائي وتعزيز النمو الاقتصادي، وهذا الإنجاز لم يمر دون تقدير دولي، حيث اختارت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية (UN-Water) المملكة كدولة رائدة في تحقيق مؤشر الإدارة المتكاملة للمياه، وهو ما يعكس حجم التحول الكبير الذي شهدته المملكة في هذا القطاع الحيوي.

الإدارة المستدامة

ويعكس هذا الإنجاز رؤية السعودية 2030 التي وضعت الإدارة المستدامة للموارد المائية كأحد محاورها الأساسية، من خلال تطوير سياسات فعالة، والاستثمار في البنية التحتية، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ولم يكن هذا الإنجاز وليد اللحظة، بل جاء نتيجة عقود من العمل المتواصل لمواجهة التحديات المائية التي لطالما عانت منها المملكة، فباعتبارها واحدة من أكثر دول العالم جفافًا، اعتمدت السعودية على موارد محدودة من المياه العذبة، مما استدعى البحث عن حلول مبتكرة للحفاظ على التوازن بين العرض والطلب، وكان الحل يكمن في تبني نهج شامل يتكامل مع القطاعات الأخرى مثل الزراعة والطاقة والصحة، بحيث لا يكون الماء مجرد مورد، بل عنصرًا استراتيجيًا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

تحلية مياه البحر

وأحد أهم الخطوات التي اتخذتها المملكة هو الاستثمار في تحلية مياه البحر، حيث أصبحت السعودية اليوم واحدة من أكبر الدول المنتجة للمياه المحلاة في العالم، وقد ساهمت هذه التقنية في تقليل الاعتماد على المياه الجوفية، التي كانت تتعرض للاستنزاف المفرط، كما تم تحسين أنظمة الري في القطاع الزراعي، مما أدى إلى خفض الاستهلاك بنسبة كبيرة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تم تطوير سياسات لترشيد الاستهلاك، وتعزيز الوعي المجتمعي حول أهمية الحفاظ على الموارد المائية، إلى جانب توظيف التكنولوجيا الذكية لمراقبة شبكات المياه وتحديد الفاقد وإصلاحه في الوقت الفعلي.

استثمارات مالية

إلى جانب ذلك، أدركت المملكة أن الإدارة الفعالة للمياه لا تقتصر على الحلول التقنية فقط، بل تحتاج إلى استثمارات مالية ضخمة لضمان استدامتها؛ لذا، قامت بضخ أكثر من 6 مليارات دولار لدعم مشاريع المياه في أكثر من 60 دولة حول العالم، في خطوة تعكس التزامها ليس فقط بتطوير قطاع المياه محليًا، ولكن أيضًا بمساعدة الدول الأخرى على مواجهة تحدياتها المائية، وهذا الاستثمار الدولي يعزز مكانة المملكة كقوة رائدة في مجال الاستدامة، ويؤكد أن المياه ليست مجرد قضية محلية، بل تحدٍ عالمي يتطلب تعاونًا دوليًا واسع النطاق.

منظمة عالمية للمياه

وفي إطار هذه الجهود، أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان عن تأسيس منظمة عالمية للمياه، يكون مقرها في الرياض، بهدف توحيد الجهود الدولية لإيجاد حلول مبتكرة لأزمات المياه، وتعزيز التعاون بين الدول والمنظمات والقطاع الخاص، وتكثيف الجهود الدولية لمواجهة تحديات المياه التي تهدد الاستقرار البيئي والاقتصادي حول العالم، حيث تعكس هذه المبادرة بوضوح الدور المتنامي للمملكة في صياغة مستقبل مستدام، حيث لم تكتفِ بتحقيق إنجازات داخلية، بل سعت إلى تعميم خبراتها ونقل نموذجها الناجح إلى الدول الأخرى، فالتحولات المناخية المتسارعة، والتوسع العمراني، والاستهلاك المتزايد للمياه، كلها عوامل تجعل من الضروري تطوير سياسات عالمية متكاملة لمعالجة هذه الأزمة المتفاقمة، ولا شك أن الدراسات الاقتصادية تدعم هذا التوجه، حيث تشير الأبحاث إلى أن نقص المياه قد يؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 30 % في بعض الدول منخفضة الدخل بحلول عام 2050.

وفي السياق نفسه، دعا رئيس اللجنة العالمية لاقتصاديات المياه، يوهان روكستروم، إلى ضرورة إعادة تشكيل السياسات المائية عالميًا، بحيث يتم دمج المياه في خطط التنمية الاقتصادية بشكل أكثر شمولًا، محددًا خمس أولويات رئيسية لتحقيق هذا الهدف، من بينها تحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة، وحماية التنوع البيولوجي، وتبني نماذج اقتصادية دائرية تعتمد على إعادة تدوير المياه، وضمان وصول المياه الآمنة إلى جميع الأطفال بحلول عام 2030.

رؤية متكاملة

وجعلت هذه التحديات العالمية من التجربة السعودية نموذجًا يستحق التوقف عنده، ليس فقط بسبب نجاحه في تحقيق الإدارة المتكاملة للموارد المائية، ولكن أيضًا لأنه يقدم رؤية متكاملة تجمع بين الابتكار والاستثمار والسياسات المستدامة، ونجحت المملكة في تحويل أزمتها المائية إلى فرصة للنمو، حيث أصبحت المياه جزءًا أساسيًا من خططها الاقتصادية؛ مما انعكس إيجابًا على مختلف القطاعات، بدءًا من الزراعة والصناعة، ووصولًا إلى قطاع الطاقة، الذي يعتمد بشكل كبير على المياه في عمليات التبريد والإنتاج.

منتدى المياه 2027م

وبحسب مراقبون فإن استضافة المملكة للمنتدى العالمي للمياه في عام 2027 ستكون فرصة مثالية لعرض هذه التجربة الفريدة، ومشاركة الخبرات مع الدول الأخرى التي تسعى لتطوير سياساتها المائية، فمن خلال هذا الحدث؛ ستتمكن المملكة من تعزيز الحوار الدولي حول القضايا المائية، وتسليط الضوء على أفضل الممارسات، ودفع عجلة التعاون العالمي للوصول إلى حلول مستدامة.

المملكة تدعم مشروعات المياه في كل المناطق