الحرب التجارية في 2018 كلفت الصين 35 مليار دولار وأميركا 15 ملياراً
تثير خطط التعريفات الجمركية التي يعتزم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مخاوف العديدمن الزعماء الآسيويين، نظرا لأن تسعاً من أكبر 15 دولة آسيوية تعاني أكبر عجز تجاري مع الولايات المتحدة، وبينما تتوقع بعض الدول قرب انتهاء عصر النظام العالمي المرتكز على الولايات المتحدة، تشعر آسيا بتأثير الاضطرابات التي قد يجلبها شعار ترمب "أميركا عظيمة مرة أخرى"، والذي يستهدف تعزيز القومية الأميركية وأجندة "أميركا أولا"، ويشمل هذا الترويج لشراء المنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة وتوظيف العمال الأميركيين، وأداته الرئيسة لتحقيق هذه الأهداف هي التعريفات الجمركية، التي يعتبرها الرئيس القادم "الكلمة الأكثر جمالا".
بالإضافة إلى فرض تعريفات جمركية ثابتة بنسبة 60 % على المنتجات الصينية المصدرة إلى الولايات المتحدة، يخطط ترمب لفرض رسوم تتراوح بين 10 % و20 % على الواردات من الدول الأخرى، ويهدف نهجه المزدوج إلى إقامة حواجز أمام جميع السلع الأجنبية القادمة إلى السوق الأميركية، وإذا لزم الأمر، ممارسة الضغوط على البلدان التي تتمتع بفوائض تجارية مستمرة مع الولايات المتحدة لحل هذا الموضوع الشائك من خلال إجراء مفاوضات مباشرة.
تبدو الدول الآسيوية مضطرة إلى مواجهة كافة العواقب المترتبة على فرض هذه الرسوم القاسية بشكل أكثر واقعية، وتتصدر الصين قائمة الدول التي سجلت الولايات المتحدة معها عجزا تجارياً في عام 2023، وذلك بعجز يصل إلى 279.4 مليار دولار، وهذا العجز التجاري هو نفس حال تسعة من أكبر 15 شريكاً تجارياً للولايات المتحدة في آسيا، وعلى سبيل المثال، تحتل فيتنام المرتبة الثالثة من حيث الفائض التجاري مع الولايات المتحدة، بعد الصين والمكسيك، بحوالي 104.6 مليارات دولار.
وضع فيتنام
بفضل موقعها الجغرافي القريب من الصين ووفرة العمالة منخفضة التكلفة، تتمتع فيتنام بوضع جيد يسمح لها بالاستفادة من الاتجاه المتزايد بين الشركات المصنعة العالمية لتحويل الإنتاج بعيداً عن الصين، وخاصة في مجال الإلكترونيات والمنتجات الإلكترونية، إلا أنه بالنظر إلى هيكل التجارة في فيتنام، نجد أن 30 % من وارداتها تأتي من الصين، فيحين تذهب 30 % من صادراتها إلى الولايات المتحدة، بينما تستورد فيتنام السلع الوسيطة من الصين وتصدر المنتجات المجمعة إلى الولايات المتحدة، وتعمل فعلياً مثل "صين صغيرة"، وهذا يعني، أن فيتنام تخاطر بهذا الملف التجاري باعتباره منخرطاً في صادرات إعادة الشحن، حيث تعمل هانوي كوجهة وسيطة للسلع الصينية قبل شحنها إلى أميركا.
في مقابلة سابقة مع قناة فوكس بيزنس الأميركية، تطرق ترمب للحديث عن الدولة الاشتراكية الواقعة في جنوب شرق آسيا، قائلاً: "فيتنام هي الأسوأ تقريبًا.. هي أصغر بكثير من الصين ،لكنها تقريبًا أسوأ منتهك للجميع"، وبحسب بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، فقد بلغت نسبة واردات فيتنام وصادراتها إلى ناتجها المحلي الإجمالي 156 % في 2023، مما يضعها في المرتبة السادسة على مستوى العالم، ومن الممكن أن تؤدي الحمائية التجارية إلى إضعاف الاقتصاد الفيتنامي، الذي ازدهر بفضل التجارة الحرة.
المعاملة الجمركية التفضيلية للهند
أما الهند، فتستعد على قدم وساق لإجراءات ترمب التجارية العدوانية، ولا تنسى نيودلهي أن سيد البيت الأبيض قد ألغى خلال فترة ولايته الأولى، المعاملة الجمركية التفضيلية للهند، مما أدى إلى إزالة إمكانية وصول البلاد إلى التعريفات الجمركية المنخفضة الممنوحة للعديد من الدول النامية، وتعد الولايات المتحدة أكبر وجهة للصادرات الهندية والشريك التجاري الرئيسي الوحيد الذي تحتفظ معه بفائض تجاري قدره 43.6 مليار دولار، ومع وجود سوق محلية كبيرة يقودها 1.4 مليار نسمة، فمن المرجح أن تواجه الهند ضغوطا متزايدة لفتح أسواقها بشكل أكبر.
أما تايلاند فقد سجلت فائضًا تجاريًا كبيرًا مع الولايات المتحدة العام الماضي، بلغ 40.7 مليار دولار، وتتمتع بانكوك بتحالف وثيق غير عادل مع الصين، وهي تتخوف من أن تكون مركزًا كبيراً للمستثمرين الصينيين، لأن هذا التوجه سيغضب ترمب، ولكن تايلاند أكثر قلقاً بشأن الرسوم الجمركية الأعلى، والتي قد تؤدي إلى منع وصول العديد من المنتجات الصينية إلى السوق، مما يؤدي إلى تدفق الواردات الرخيصة من الصين، وسجلت تايلاند عجزاً تجارياً بلغ 36.7 مليار دولار مع الصين العام الماضي، وهو ما يقرب من ضعف العجز المسجل قبل خمس سنوات، وقد ساهم هذا بشكل كبير في العجز الإجمالي الصغير نسبياً في البلاد.
خلال إعلانها عن سياسات عاجلة لتحفيز الاقتصاد التايلاندي ، تعهدت رئيسة الوزراء بايتونجتار نشيناواترا في سبتمبر الماضي، بحماية الشركات الصغيرة والمتوسطة من "المنافسة غير العادلة" مع الشركات الأجنبية، في إشارة واضحة إلى قلقها بشأن زيادة محتملة في الواردات الصينية، من جهة أخرى، بلغ الفائض التجاري لإندونيسيا مع الولايات المتحدة 17 مليار دولار، وهو فائض صغير نسبياً مقارنة بالاقتصادات الآسيوية الأخرى، وفي ظل ولاية ترمب الثانية، سيكون الشاغل الرئيس للبلاد هو تحرك الإدارة للنظر في إلغاء الدعم لشراء السيارات الكهربائية.
في ظل إدارة جو بايدن، حصل المستهلكون الأميركيون الذين يشترون السيارات الكهربائية المجمعة في أميركا الشمالية على خصم ضريبي يصل إلى 7500 دولار، وقد يؤدي إلغاء هذا الحافز إلى تقليص مبيعات السيارات الكهربائية التي تشهد تباطؤا بالفعل، مما قد يؤثر على السوق العالمية، فيما تُعَد إندونيسيا مسؤولة عن نصف إنتاج العالم من خام النيكل، وهو مادة أساسية لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وقد حظرت الإدارة السابقة للرئيس جوكو ويدودو تصدير الخام وزادت من شحنات المنتجات المعالجة باستخدام الاستثمارات الصينية لترقية صناعة الموارد من خلال تحول ذا قيمة مضافة، ويهدف الرئيس الإندونيسي الجديد برابوو سوبيانتو إلى رفع النمو السنوي إلى 8 %، بهدف انضمام إندونيسيا إلى مجموعة الاقتصادات المتقدمة بحلول الذكرى المئوية لاستقلالها في عام 2045، ومع ذلك، تتخوف جاكرتا من أن تعرقل سياسة ترمب التجارية المتشددة تحقيق هذا الهدف الطموح.
ما هو أبعد من التجارة
يمتد تأثير ولاية ترمب الثانية إلى ما هو أبعد من التجارة، فارتفاع تكاليف الواردات قد يؤدي إلى إعادة إشعال فتيل التضخم في الولايات المتحدة، وإذا أبطأ بنك الاحتياطي الفيدرالي وتيرة خفض أسعار الفائدة أو تحرك لرفعها مرة أخرى، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف عملات الأسواق الناشئة مقابل الدولار، وربما تجد الاقتصادات الآسيوية الناشئة التي تتمتع بفوائض تجارية مع الولايات المتحدة نفسها في مأزق، فرفع أسعار الفائدة قد يعرقل تعافيها الاقتصادي، والفشل في القيام بذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الواردات، وإذا سمحت هذه الدول لعملاتها بالانخفاض، فقد تخاطر بوصمها بأنها "متلاعبة بالعملة"، وقد تتهمها واشنطن بمحاولة تعزيز الصادرات بشكل غير عادل، مما قد يؤدي إلى فرض تعريفات عقابية إضافية على صادراتها إلى أميركا.
ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت آسيا سوف تصبح تحت رحمة سياسة التعريفات الجمركية المتقلبة التي ينتهجها ترمب، حيث اكتسب الصوت الجماعي للدول الناشئة والنامية نفوذاً متزايداً مع صعود الجنوب العالمي على مدى السنوات الأربع الماضية والتوسع السريع لمجموعة بريكس، التي تصنف كبطلة لدول الجنوب العالمي، وقد جمعت قمة المجموعة التي عقدت في روسيا خلال أكتوبر الماضي، زعماء 36 دولة، ومن بين الدول الثلاث عشرة المرشحة للعضوية الجديدة هناك أربع دول من جنوب شرق آسيا هي: تايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا، وفيتنام.
لكن، الصدمة الأكبر تكمن في تايلاند التي تسعى للانضمام إلى بريكس، حيث تعد تايلاند حليفًا عسكريًا وشريكًا اقتصاديًا موثوقاً للولايات المتحدة منذ فترة طويلة، بينما تدير الولايات المتحدة العديد من المكاتب الإقليمية من سفارة بانكوك، وهي واحدة من أكبر البعثات الدبلوماسية الأمريكية في العالم، وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على مدى العشرين عاما الماضية من 29 % إلى 26 %، في حين ارتفعت حصة دول بريكس بشكل كبير، من 9 % إلى 25 %، مما جعلها على قدم المساواة مع حصة الولايات المتحدة، وإذا ضمت المجموعة أعضاء جدد، فقد تتفوق على الولايات المتحدة في الحصة الاقتصادية العالمية، ومع اعتزام بريكس البدء في استكشاف نظام تسوية تجارية مستقل عن الدولار، فقد تجتذب المزيد من البلدان إلى هذه الكتلة الاقتصادية الناشئة.
الجنوب العالمي
غالباً ما تزعم بلدان الجنوب العالمي أن العديد من مشاكل العالم ناجمة عن الدول المتقدمة، ومع ذلك فهي تتحمل وطأة العواقب، ومن نواح عديدة، يبدو أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الولايات المتحدة تثبت صحة هذا المنظور، حيث تبدو أميركا، التي كانت ذات يوم مؤيدة قوية للعولمة، على استعداد الآن للتخلي عن العولمة لصالح الحمائية، وربما يتعين عليهم أن ينظروا إلى الأمر على المدى البعيد، لأن ترمب لن يظل في السلطة سوى لأربع سنوات فقط، وإذا نجحوا في الصمود، فربما يتحول الأمر لانفراجه بعد انتهاء عصر ترمب، ولكن ربما يكون من المبالغة في التفاؤل أن تعود الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى دورها كزعيمة عالمية في مجال التجارة الحرة بمجرد مغادرة ترمب منصبه.
إجمالاً، فإن الدول الآسيوية تسابق الزمن قبيل تولي ترمب منصبه في يناير المقبل، للرد على خطاب الحمائية عبر الانضمام إلى التكتلات التجارية الإقليمية والثنائية التي تعزز التعاون التجاري العابر للحدود، وباعتقادي، فإن الاتفاقيات التجارية التي لا تشمل واشنطن، مثل الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ سوف تصبح أكثر أهمية للدول الآسيوية خلال السنوات المقبلة، على أساس أن هذا سوف يساعدها على إدارة بعض الفوضى، والأضرار الناجمة عن انهيارالنظام التجاري متعدد الأطراف.
تم إبرام اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، في نوفمبر 2020 بعد ثماني سنوات من المفاوضات، وهي اتفاقية تجارية بين 15 دولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا، على خلفية الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، وتمثل الدول الموقعة على الاتفاقية حوالي 30 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
تحتاج الصين، على وجه الخصوص، إلى تحفيز الاستهلاك المحلي واستيراد المزيد من السلع لتشجيع التجارة الإقليمية، وبالفعل، فإن بكين تلعب دوراً مهماً للغاية في دعم الطلب الخارجي للمنطقة، مما يجعلها بطلة التجارة بين دول المنطقة، ولا شك أن فرض تعريفات جمركية أميركية أعلى سيكون صعباً بشكل خاص على الاقتصادات الآسيوية مثل سنغافورة وهونج كونج وفيتنام وتايوان التي تتجاوز نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي فيها 100 %، أما سنغافورة وكوريا الجنوبية فهما الدولتان الآسيويتان الوحيدتان اللتان أبرمتا اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة.
تُظهِر الأبحاث التي أجرتها جامعة فودان، في شنغهاي، أن الحرب التجارية في عام 2018 كلفت الصين 35 مليار دولار والولايات المتحدة 15 مليار دولار، وقد سعت منظمة التجارة العالمية إلى قياس الكيفية التي قد تتعامل بها الدول الآسيوية مع أسوأ سيناريو محتمل حين تُحرم من الوصول إلى السوق الأميركية، ووجد التحليل أن الأمر سيستغرق خمس سنوات في المتوسط للعثور على شركاء تجاريين بديلين.
في النهاية، تعتبر مهمة العثور على شركاء جدد مسألة صعبة بالنسبة للعديد من الدول الآسيوية، مثل تايلاند، التي تحتاج إلى 24 عاماً لتحل شركاء تجاريين مثل الصين والاتحاد الأوروبي وفيتنام واليابان محل الولايات المتحدة، أما كوريا الجنوبية، فإن الأمر قد يستغرق حتى عام 2038 حتى تستطيع إيجاد شركاء تجاريين جدد بدلاً من الحليف الأميركي، وأي ما كان الأمر، فإن الحفاظ على نظام التجارة مفتوحًا قدر الإمكان يظل محركاً أساسياً لإدارة مخاطر السياسة الأميركية، وبالفعل، فإن البلدان الآسيوية تبيع منتجاتها إلى أسواق ثالثة، وهي أسواق ازدهرت بشكل كبير خلال القرن الحالي، في ظل تراجع العولمة.