يمثل تمكين المملكة العربية السعودية من خلال استضافتها للمؤتمرات والفعاليات العالمية خطوةً استراتيجية نحو تعزيز قوتها الناعمة وتأثيرها في قضايا التنمية المستدامة والبيئة، معززةً بذلك مكانتها كقائدٍ في مجال التعاون الدولي.
حظيتُ خلال الأيام القلائل الماضية بشرف المشاركة في مؤتمر الأطراف السادس عشر (COP16) لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر UNCCD الذي عُقد في الرياض خلال الفترة من 2 إلى 13 ديسمبر الجاري، لمواجهة تحديات التصحر والجفاف، وسعدت برئاسة إحدى جلساته المميزة، والحقيقة أن ما لفتني كان استقطاب المؤتمر للمئات من صناع السياسات وقادة الأعمال والخبراء المختصين بهذا المجال من مختلف أنحاء العالم، لمناقشة أفضل الممارسات والتوقعات المستقبلية لمواجهة هذه الأزمات الخطيرة وتقديم حلول عاجلة لها، وما صاحب ذلك من حضور وتفاعل كبيرين من جانب الجمهور والزوار الذين حرصوا على حضور هذا الحدث الكبير والإصغاء إلى المتحدثين ومناقشة الخبراء في آرائهم وأطروحاتهم، ما أبرز أمامي درجة كبيرة من الوعي فاقت تصوري، خاصةً في قضايا متخصصة كالتي كان المؤتمر يناقشها.
لقد مثل مؤتمر COP16 لحظة فريدة للمملكة، كونه الأول من نوعه الذي يُقام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة تعاني بشكل خاص من التصحر، حيث أتاح هذا الوضع للمملكة أن تُظهر التزامها بمكافحة القضايا البيئية والاستفادة من خبراتها، كما تعد استضافة المؤتمر فرصة لتعزيز مبادرات المملكة في مجال البيئة، وتأسيس شراكات دولية لمعالجة المسائل الحرجة بفضل التنسيق مع الشركاء الدوليين، ويمكن للمملكة أن تعزز دورها كمحور في السياسة البيئية العالمية، أيضاً من خلال التنظيم الاستراتيجي لمثل هذه الأحداث البارزة، لا تعالج المملكة العربية السعودية التحديات العالمية الملحة مثل تدهور الأراضي والقدرة على الصمود في مواجهة الجفاف فحسب، بل تعمل أيضًا على تعزيز قوتها الناعمة، وهي أصل حيوي للتأثير الدبلوماسي وتعزيز التعاون الدولي.
فرص فريدة للمملكة
بلا شك، أصبحت المملكة في السنوات الأخيرة محط أنظار العالم على مختلف المستويات، اتساقاً مع التغيرات والنهضة التي تشهدها بلدنا يوماً بعد آخر والتطور الحاصل بمختلف المجالات، ويظل تنظيم المعارض والمؤتمرات والأحداث العالمية أحد أبرز هذه المجالات والتطورات انطلاقاً من كونها صناعة ضخمة تتنافس عليها العديد من دول المنطقة من حولنا وعنصراً مهماً في نمو الاقتصاد وجزءًا أساسيًا في بناء التفاهم والعلاقات بين الدول، لذلك كان الدخول القوي للمملكة العربية السعودية في هذا المجال من خلال استضافتها للأحداث الدولية المهمة شاهداً على الدور الرائد لها في ظل ساحة عالمية متغيرة ومحققاً للأثر الكبير في تعزيز موقع المملكة كداعم رئيسي لقضايا البيئة والتنمية المستدامة، ويكفي أنه خلال الأيام القلائل الماضية وبالتزامن مع استضافتها لمؤتمر COP16 حصلت المملكة على تأكيد رسمي من الفيفا على استضافتها لكأس العالم 2034، ما يعكس المصداقية المتزايدة والمكانة الدولية للمملكة، ويفتح الباب أمام فرص التعاون العالمي في مواجهة التحديات المختلفة.
إن استضافة المملكة لمثل هذه المؤتمرات والأحداث والمسابقات العالمية تمثل عنواناً للقوة الناعمة التي باتت تحظى بها المملكة والتي قدمها المفكر جوزيف ناي بأنها القدرة على التأثير والإقناع دون اللجوء لاستخدام القوة، فالمملكة الآن تتبنى التعاون الدولي والتنمية المستدامة بما يتماشى مع الأهداف العالمية للعمل على تعزيز مكانة المملكة في الساحة الدبلوماسية ويعزز من التعاون العالمي.
الآثار المباشرة وغير المباشرة
لهذه الصناعة
قد نرى منافسة شديدة بين العديد من الدول الخليجية من حولنا على استقطاب مثل هذه المؤتمرات والفعاليات على أرضها، ولا أشك أن ذلك ليس إلا لآثارها المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الوطني بمختلف قطاعاته، إذ تنعكس آثار تنظيم هذه المعارض والفعاليات والمسابقات على القطاعات الاقتصادية والسياحية والثقافية والاجتماعية، عبر تنشيط الاقتصاد وانتشاله من أي أزمات أو ركود ودعم مجالات عدة مثل الديكورات والمطبوعات والوكالات الإعلانية والحملات التسويقية والدعائية، وحركة الطيران المحلي والدولي ودعم قطاعي الضيافة والتموين وتحريك عمليات النقل وإيجار السيارات، وكذلك تبادل المعارف والخبرات والتقنيات الجديدة والاستثمار والتطوير المهني، وأيضاً زيادة عدد الرحلات السياحية إلى المملكة لحضور الفعاليات والتعرف على البلد المضيف وإصلاح وتأهيل البنية التحتية لمختلف مدننا لاستقبال هذه الفعاليات والرقي بخدماتنا الفندقية والنقل والتعامل مع الآخر وتأمين راحة وسلامة القادمين، فضلاً عن الدور المحوري في استقطاب الخبراء وتوطين المعرفة وإكساب الكفاءات الوطنية المزيد من المعارف والخبرات الجديدة وتشغيل الشباب وزيادة فرص العمل الدائمة والموسمية وتبادل الثقافات وإبراز بعدنا الحضاري والتعريف بتقاليدنا وتراثنا الأصيل الذي يسهم بجانب مواردنا الاقتصادية الهائلة في تقديم صورة حية يتردد صداها لدى الجماهير العالمية.
التحديات التي تواجه هذه الصناعة
على الرغم من الإمكانيات الكبيرة والآمال التي تحملها صناعة المؤتمرات والفعاليات بالمملكة وكذلك الإحصاءات التي تُبرز التنامي الكبير في هذا القطاع، إذ بينت الإحصاءات أن الرياض وحدها شهدت هذا العام (2024) تنظيم نحو 301 مؤتمر وفعالية ما يبين التطور الحاصل بهذا المجال، إلا أن المملكة تواجه تحديات في هذا القطاع تجعلها لا تزال في بداية الطريق مقارنةً بالأسواق العالمية العريقة في هذه الصناعة، حيث تشير تجارب سابقة إلى أوجه قصور تنظيمية تبرز في التعامل مع المؤتمرات في كثير من الأحيان كتمارين للعلاقات العامة بدلاً من كونها منصات لمناقشات هادفة، فضلاً عن ضرورة مواجهة المشكلات الجانبية التي تعترض نحاج هذه المؤتمرات والفعاليات ومنها على سبيل المثال الازدحام المروري الذي يحتاج إلى معالجة جذرية حتى لا يضيع وقت الزوار هدراً والارتفاع غير المبرر لأسعار الخدمات المرتبطة بتنظيم الفعاليات ونقص التسويق عالمياً للأحداث والمؤتمرات التي تجري في المملكة والتي يجب العمل عليها لجذب أكبر نسبة من الجمهور المستهدف وضرورة التخطيط المسبق للحدث بوقت كاف ودراسة أفضل سبل إنجاحه حتى يحقق أفضل عوائد اقتصادية ممكنة.
كما تعكس العقبات البيروقراطية التي تعترض تنظيم الأحداث مثل التأخيرات في الحصول على التراخيص الحاجة الماسة إلى تحسين حوكمة القطاع، حيث ينبغي أن يكون التركيز على خلق حوارات ذات معنى تتجاوز مجرد إجراء فعاليات كبيرة، وهذا يتطلب التركيز على تحسين استراتيجيات التخطيط وتحفيز المنظمين والممارسين لابتكار حلول فعّالة.
الخلاصة
لا شك أن استضافة المملكة للمؤتمرات العالمية مثل COP16 وغيرها من الفعاليات العالمية تسهم في تعزيز قوتنا الناعمة وتأكيد نفوذنا على الساحة العالمية، من خلال مواجهة التحديات البيئية وتنشيط التعاون الدولي وتسليط الضوء على السعودية الحديثة، والمملكة بذلك تضع نفسها في الصدارة كقائدة في الاستدامة والبيئة، وهذا شأن الفعاليات والمسابقات العالمية كافة التي تستضيفها المملكة، غير أن استكمال هذا النجاح وتحقيق هذه الأهداف يتطلب مواجهة التحديات المتأصلة في صناعة المؤتمرات وضمان تنظيم الأحداث بدقة والتركيز على الاستراتيجية والمعنى الموضوعي، كما يتطلب مزيداً من الشراكات العالمية في صناعة الفعاليات وتطوير قدرات المواطنين السعوديين ووعيهم ومواجهة الصعوبات التي تعترض صناعة الفعاليات، والتركيز على تخطيط استراتيجي فعال يفتح الأفق لمستقبل يوفر فرصًا أكبر للتعاون والابتكار.
إن نجاح مؤتمر COP16 وكذلك نجاحنا في الفوز بتنظيم حدث عالمي يجذب أنظار العالم أجمع مثل كأس العالم فضلاً عن الفعاليات العالمية الأخرى التي تستضيفها المملكة يعد محفزًا للتغير التحويلي الذي يمكن أن يعزز التزام المملكة بالتنمية المستدامة ليس فقط لمواطنيها، ولكن للعديد من المجتمعات حول العالم. وبفضل المناقشات الفعّالة والشراكات المستدامة، تتيح هذه الفعاليات فرصة فريدة لتوفير حلول مبتكرة للتحديات المعقدة التي تواجه عالمنا اليوم. وعندما نفكر في الدور المتنامي للمملكة العربية السعودية في تعزيز القوة الناعمة من خلال استضافتها للمؤتمرات والاحداث العالمية نجد أن إمكاناتها تكاد تكون غير متناهية، عبر دمج تراثها الثقافي الخاص واستراتيجياتها الرائدة، ما يتيح للمملكة فرصاً كبرى لتحقيق تأثير إيجابي على العديد من الأصعدة وتأسيس صناعة مستدامة من خلال التعاون الكامل بين القطاعين العام والخاص.
*أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية في جامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولايات المتحدة