لطالما كان الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مهتماً بشراء غرينلاند، وهي منطقة تتمتع بالحكم الذاتي تابعة لمملكة الدنمارك، بل إنه أكد للصحفيين هذا الأسبوع أنه ربما يستخدم القوة العسكرية للاستحواذ على الأراضي الدنماركية، قائلاً: «نحن بحاجة إليها من أجل الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة»، وقد طرح ترمب فكرة شراء بلاده لغرينلاند،لأول مرة في عام 2019، لكن، أحد معوقات هذه الصفقة المثيرة للجدل، هو أن مبيعات أراضي الدول في العصر الحديث مسألة نادرة للغاية، فيما يريد ترمب إعادة إحياء شراء أراضي الدول، والسؤال هنا: كيف تتم عملية التسعير لشراء دولة بأكملها؟.
ممانعة دنماركية
ربما قوبلت تصريحات ترمب حول «جعل غرينلاند عظيمة مرة أخرى» بالسخرية والممانعة من أهل هذه البلاد أو أصحاب المصلحة، ولكنها تسلط الضوء على الأهمية الأوسع لهذه الجزيرة الجليدية، ففي الأسبوع الماضي، دعا رئيس وزراء غرينلاند موتي إيجيدي إلى الاستقلال عن الدنمارك وكسر أغلال الحقبة الاستعمارية، وفي الثالث والعشرين من ديسمبر 2024، رفض رئيس وزراء غرينلاند صراحة اهتمام ترمب، قائلاً: «غرينلاند لنا، نحن لسنا للبيع ولن نكون للبيع أبدا»، وبالمثل، رفض رئيس الوزراء الدنماركي فكرة شراء ترمب لغرينلاند باعتبارها فكرة سخيفة، ولهذا، أبقت الدنمارك، الجزيرة طافية اقتصاديًا بمنحة سنوية تبلغ 500 مليون دولار، ومع ذلك، لا يزال اهتمام ترمب بالجزيرة القطبية الشمالية قائماً بقوة، ما يعكس مصالح جيوسياسية أوسع في المنطقة المحسوبة على قارة أميركا الشمالية.
ليست فكرة جديدة
لا يعد ترمب أول رئيس أميركي يطرح فكرة شراء غرينلاند، فقد اقترحت الفكرة لأول مرة في عام 1868 من قبل وزير الخارجية الأميركي ويليام إتش سيوارد، ثم ظهرت الفكرة على فترات منتظمة، ففي عام 1946، عرض الرئيس هاري ترومان شراء الأراضي الدنماركية مقابل 100 مليون دولار، وأبدى الدنماركيون نفس رد الفعل تجاه هذا العرض، كما فعلوا في عام 2019، وكما فعلوا مرة أخرى في عام 2025: «لا، شكرًا»، وقد يبدو غريباً اليوم أن تقوم دولة ذات سيادة بشراء أراضي دولة أخرى، إلا أن هناك العديد من السوابق التاريخية لهذا الأمر، فقد اشترت الولايات المتحدة جزءًا كبيرًا من توسعها الغربي في أوائل القرن التاسع عشر، وشمل ذلك «شراء لويزيانا»، وهي مساحات شاسعة من الأراضي في أميركا الشمالية، تم شراؤها من فرنسا في عام 1803 مقابل 15 مليون دولار (تقدر حالياً في عام 2025 بنحو 416 مليون دولار). بعد نصف قرن، دفعت الولايات المتحدة للمكسيك مقابل مساحات كبيرة من الأراضي بعد الحرب المكسيكية الأميركية، كما اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من روسيا في عام 1867 مقابل 7.2 مليوندولار (تقدر حالياً بأكثر من 150 مليون دولار)، واشترت جزر فيرجن الأمريكية من الدنمارك في عام 1917 مقابل 25 مليون دولار (أكثر من 600 مليون دولار في عام 2025)، ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد اشترت اليابان وباكستان وروسيا وألمانيا أراضي، ونقلت إليها ولايتها القضائية على السكان المحليين، وبذلك اكتسبت ملكية الأراضي، وتمكنت من الوصول بسهولة إلى ممرات مائية حيوية والمناطق النائية جغرافياً.
ما قيمة البلد؟
يعد تقييم دولة ما، أو إقليم يتمتع بالحكم الذاتي مثل غرينلاند، مهمة صعبة للغاية، فعلى النقيض من الشركات أو الأصول، تجسد الدول مزيجاً من العناصر الملموسة وغير الملموسة التي تقاوم القياس الاقتصادي المباشر، لكن، نقطة البداية المنطقية هي الناتج المحلي الإجمالي، وهو قيمة كل السلع والخدمات النهائية التي ينتجها اقتصاد ما في فترة زمنية معينة، عادةً ما يكون عام واحد، ولكن هل يعكس هذا القيمة الحقيقية للاقتصاد؟ فعندما نشتري شيئاً ما، فإن الفوائد المستمدة منه تستمر كما نأمل في المستقبل، لذا، فإن تحديد سعر الشراء على أساس القيمة المنتجة في فترة زمنية معينة قد لا يعكس بشكل كافٍ قيمة الاقتصاد بأكمله، بالنسبة للمشتري، فإنه يظل بحاجة للنظر في قدرته على الاستمرار في توليد نفس قيمة اقتصاد البلد المشتراه، بعد عملية الشراء. لا تشمل الموارد الإنتاجية في غرينلاند الشركات القائمة والحكومات والعمال الذين استخدموا في توليد الناتج المحلي الإجمالي الحالي (المقدر بنحو 3.236 مليارات دولار في عام 2024) فحسب، بل تشمل أيضًا قدرتها، التي يصعب قياسها، على تغيير وتحسين الناتج المحلي الإجمالي بعد عملية الشراء، وسيعتمد هذا على مدى إنتاجية هذه الموارد المتوقعة في المستقبل،إلا أن هناك سمات قيمة أخرى لا يتم تضمينها في الناتج المحلي الإجمالي، وتشمل هذه جود ةرأس المال البشري، والبنية الأساسية، ونوعية الحياة، والموارد الطبيعية، والموقع الاستراتيجي.
موارد غير مستغلة
لدى الجزيرة رواسب معروفة من 43 من أصل 50 من هذه المعادن، ووفقًا لوزارة الطاقة الأمريكية، فإن هذه المعادن ضرورية «للتقنيات التي تنتج وتنقل وتخزن وتحافظ على الطاقة «ولديها « خطر كبير من تعطيل سلسلة التوريد»، ومن المؤكد أن هذا الأمر يشكل مصدر قلق للأميركيين نظرًا لأن الصين، المورد الرئيس للعديد من المعادن الحيوية للأسواق العالمية، تزيد القيود على صادراتها كجزء من حرب تجارية مستمرة مع الولايات المتحدة، ومن شأن الوصول الأميركي إلى موارد غرينلاند أن يمنح واشنطن مزيدًا من تأمين إمداد سلاسة التوريد لهذه المعادن، وبالتالي يحد من أي نفوذ للصين على هذا القطاع الحيوي. وبعيداً عما هو موجود بالفعل، فمن منظور السوق، فإن الموارد التي لم يتم استغلالها بعد هي التي تجعل غرينلاند ذات قيمة، حيث تُعد غرينلاند منجمًا للفحم منذ عقود، ولديها احتياطيات كبيرة مؤكدة، ويحتوي باطن الأرض هناك على معادن نادرة ومعادن ثمينة وجرافيت ويورانيوم، وبالإضافة إلى استخراج الفحم، هناك الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزنك والجرافيت والرخام، وهناك إمكانية كبيرة لاستغلال كميات ضخمة من النفط قبالة مياه غرينلاند،إلا أن هذه الإمكانيات لا تنعكس في الناتج المحلي الإجمالي الحالي لغرينلاند.
علاوة على ذلك، فإن الموقع الاستراتيجي لغرينلاند يجعلها ذات قيمة كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة، حيث تعد القاعدة الأمريكية القائمة، قاعدة بيتوفيك الفضائية، أساسية للإنذار المبكر والدفاع الصاروخي الأميركي، وتلعب القاعدة دورًا حاسمًا في مراقبة الفضاء، وسيؤدي التوسع المستقبلي للقاعدة في تعزيز قدرة واشنطن على مراقبة التحركات البحرية الروسية في المحيط المتجمد الشمالي وشمال الأطلسي، وإذا تم تمرير صفقة ترمب، فإن هذا سيمنع بشكل فعال أي تحركات من جانب المنافسين، وخاصة الصين، للحصول على موطئ قدم في الجزيرة.
الأصول الوطنية أسهل
يعتبر تحديد سعر لأصول وطنية كبيرة، مثل قناة بنما، التي يريد ترمب أيضاً أن تكون تحت السيطرة الأميركية، أمر أسهل كثيراً من تحديد سعر غرينلاند، وتعتبر نظرية تقييم الأصول جزءًا أساسيًا من نظام التمويل، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وقد تطور نموذج تسعير الأصول بمرور الوقت، ولكن، هذا النموذج يتعلق في الأساس بتقدير تدفقات الدخل الصافي المستقبلية من أحد الأصول، بناءً على عدد قليل من المدخلات.
وبالنسبة لقناة بنما، فإن هذا يتطلب تقدير الدخل الصافي المستقبلي الذي يمكن توليده، استناداً إلى عوامل مثل الرسوم المتولدة عن استخدامها، ومستوى حركة المرور المتوقعة، ثم، إن هناك خطوات يجب أن تتخذ لتقدير تكاليف صيانة المعدات وأي ضرر متوقع لصحة الممر المائي، وهناك عامل آخر في تحديد مبلغ الصفقة، وهو مخاطر تحقيق هذا الدخل الصافي بالفعل، ويتمعادة تحديد سعر مثل هذا الأصل من خلال حساب القيمة الحالية لجميع تدفقات الدخل المستقبليةالصافية.
مبيعات الأراضي
يرتبط انخفاض مبيعات الأراضي في العصر الحديث بعدة عوامل، ففي الماضي، كانت مبيعات الأراضي تعود بالفائدة على النخب الحاكمة وليس المواطنين العاديين، وفي الديمقراطيات الحديثة، يكاد يكون من المستحيل بيع الأراضي إذا عارض المواطنون المحليون الفكرة، وتعمل مثل هذه الديمقراطيات على أساس المبدأ القائل إن الأصول الوطنية لابد وأن تخدم الشعب، وليس خزائن الحكومة، وبيع أي إقليم اليوم يتطلب إثبات فوائد واضحة وملموسة للسكان، وهي مهمة صعبة في الممارسة العملية. من جهة أخرى، تلعب القومية أيضاً دوراً قوياً، فالأرض مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهوية الوطنية، وكثيراً ما يُنظَر إلى بيعها باعتباره خيانة، والحكومات، باعتبارها وصية على الكبرياء الوطني، تتردد في قبول مثل هذه العروض المثيرة للجدل، مهما كانت المغريات، ولهذا يؤمن الوعي الجمعي في غرينلاند، أنه لا ينبغي أن تتم عملية بيع إقليم غرينلاند دون موافقة شعبية، وعلاوة على ذلك، هناك قاعدة دولية قوية ضد تغيير الحدود، وهذه القاعدة نبعت من المخاوف إزاء أي تعديل إقليمي، قد يؤدي إلى إثارة سلسلة من المطالبات والصراع اتفي أماكن أخرى. والواقع، أن شراء دولة أو أحد أراضيها اليوم هو مجرد تجربة فكرية، لكنها، في النهاية ليست فكرة واقعية، أو قابلة للتنفيذ، فالدول كيانات سياسية وثقافية وتاريخية تقاوم التسليع، ومن الناحية النظرية قد تكون لغرينلاند ثمن، لكن السؤال الحقيقي هو: ما إذا كانت مثلهذه الصفقة يمكن أن تتوافق مع القيم المجتمعية والحقائق الحديثة التي تأبى بيع الأوطان تحت أي لافتة، مهما كانت المغريات المادية.