يثير استحواذ الصين المتنامي على العديد من الموانئ الخارجية قلقاً غير مسبوق في الولايات المتحدة، حيث استثمرت بكين في 129 ميناء حول العالم، معظمها يتمركز في الجنوب العالمي، وتمتلك الصين أغلبية ملكية تصل إلى 17 ميناء من هذه الموانئ، وبحسب التقديرات، فقد استثمرت الشركات الصينية 11 مليار دولار في تطوير الموانئ الخارجية خلال العقد الماضي، ويمر أكثر من 27 % من تجارة الحاويات العالمية عبر محطات تمتلك فيها الشركات الصينية حصصاً مباشرة، الأمر الذي زاد من حفيظة الغرب إزاء النفوذ الصيني المتزايد على طرق الشحن العالمية، وهو ما عبر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب عندما ذكر أن الصين تدير قناة بنما، ولهذا، ينوي استعادتها.

في طريقه إلى قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو خلال نوفمبر الماضي، التقى الرئيس الصيني شي جين بينج مع الرئيسة البيروفية دينا بولوارت لافتتاح ميناء تشانكاي الضخم للمياه العميقة في بيرو بقيمة 3.6 مليارات دولار، وقد اشترت شركة كوسكو الصينية العملاقة للشحن المملوكة للدولة حصة 60 % في الميناء مقابل 1.6 مليار دولار، مما أعطى الشركة الاستخدام الحصري للميناء لمدة 60 عاماً، وبعد أيام، غادرت أول سفينة إلى شنغهاي محملة بالتوت الأزرق والأفوكادو والمعادن.

يشكل مشروع شانكاي جزءاً من رؤية الصين لطريق الحرير البحري، والذي من شأنه أن يربط بشكل أفضل بين مراكز التصنيع في الصين وشركائها التجاريين في مختلف أنحاء العالم، وقد استلزم هذا استثماراً ضخماً في الموانئ في العديد من البلدان، وجزء مهم مما يثير غضب دونالد ترمب هو أن الصين استثمرت بقوة في أميركا اللاتينية، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، فأصبحت الشريك التجاري الأول للمنطقة، تشير الاستراتيجية الصينية في مجال الموانئ بوضوح إلى هدف بعيد المدى يتمثل في الوصول إلى الصادرات الأساسية لأمنها الغذائي وأمن الطاقة من عينة فول الصويا والذرة ولحوم البقر وخام الحديد والنحاس والليثيوم المستخدم في البطاريات.

على سبيل المثال، وقعت شركة بورتوس دو بارانا، وهي شركة حكومية برازيلية تعمل كسلطة ميناء فيولاية بارانا، خطاب نوايا مع شركة تشاينا ميرشانتس بورت هولدينجز لتوسيع محطة باراناغوا للحاويات، الوحيدة في جنوب البرازيل التي تتمتع بوصول مباشر بالسكك الحديدية وتعتبر ثاني أكبر محطة في أمريكا الجنوبية، وقد تستثمر الصين في المزيد من الموانئ البرازيلية، حيث من المقرر طرح 22 محطة للبيع بالمزاد قبل نهاية عام 2025، وفي أفريقيا، ارتفعت الاستثمارات الصينية من ميناءين في عام 2000 إلى 61 منشأة في 30 دولة بحلول عام 2022، وفي أوروبا، تمتلك الشركات الصينية ملكية كاملة أو أغلبية في اثنين من الموانئ الرئيسية في بلجيكا واليونان، أو ما يسمى بـ "رأس التنين" ضمن مبادرة الحزام والطريق في أوروبا.

محركات استراتيجية الموانئ

يشكل ظهور الصين كقوة بحرية وشحن عنصراً أساسياً في طموحات الرئيس الصيني للهيمنة الاقتصادية العالمية، ومن ناحية أخرى، تحتاج الصين إلى الوصول المستقر إلى طرق التجارة الرئيسية لمواصلة تلبية الطلب على الصادرات الصينية على مستوى العالم، فضلاً عن الواردات التي تحتاجها للحفاظ على اقتصادها مزدهراً، كما أن السيطرة على الموانئ تمكن الصين من إنشاء مناطق اقتصادية في بلدان أخرى تمنح مالكي الموانئ ومشغليها امتياز الوصول إلى السلع والمنتجات، ويخشى الغرب أن يسمح هذا للصين بتعطيل إمدادات سلع معينة أو حتى ممارسة النفوذ على سياسات أو اقتصادات أخرى.

ومن بين المحركات الرئيسية الأخرى لهذه الاستراتيجية المعادن اللازمة لتغذية صعود الصين كقوة عظمى في مجال التكنولوجيا، وقد ركزت بكين استثماراتها في الموانئ في المناطق التي تقع فيها هذه الموارد الحيوية، وعلى سبيل المثال، تعد الصين أكبر مستورد لخام النحاس في العالم، وخاصة من تشيلي وبيرو والمكسيك، كما أنها واحد من أكبر مستوردي كربونات الليثيوم في العالم، وخاصة من تشيلي والأرجنتين، بينما تمنحها صفقات الموانئ التي تبرمها في أفريقيا القدرة على الوصول إلى المعادن النادرة، علاوة على ذلك، فإن الاستفادة من أميركا اللاتينية تساعد الصين على مواجهة التوترات التجارية مع أوروبا وأميركا، وخاصة الرسوم الجمركية الأميركية المشددة التي يفرضها ترمب على السلع الصينية.

المخاوف العسكرية

تثير الاستثمارات الصينية مخاوف عسكرية كبيرة للغاية في واشنطن، والفكرة السائدة بين الساسة الأميركيين هي أن الصين تتحدى نفوذ الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية، أي أميركا اللاتينية، بينما تؤكد الصين أن دبلوماسيتها البحرية موجهة نحو السوق فقط، ومع ذلك، فقد أنشأت الصين قاعدة بحرية في جيبوتي، وهي بصدد بناء قاعدة بحرية أخرى في غينيا الاستوائية، وبحسب تقرير صدر مؤخراً عن معهد سياسات جمعية آسيا (ASPI)، فإن الصين تسعى إلى "تسليح" مبادرة الحزام والطريق. ومن بين الطرق التي تتبعها الصين لتحقيق هذا الهدف (التسليح) إلزام الموانئ التجارية التي تستثمر فيها بأن تكون قادرة على العمل كقواعد بحرية، وحتى الآن، تمتلك الصين حصة أغلبية في 14 ميناء من الموانئ السبعة عشر التي تمتلك فيها حصة أغلبية، وهي قادرة على الاستخدام لأغراض بحرية، ومن الممكن أن تؤدي هذه الموانئ وظيفة مزدوجة وتدعم شبكة اللوجستيات العسكرية الصينية وتسمح للسفن البحرية الصينية بالعمل بعيداً عن الوطن، ويشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من أن بكين قد تستغل نفوذها على الشركات الخاصة لتعطيل التجارة في زمن الحرب.

كيف يستجيب الغرب؟

وبينما تثير الاستثمارات الصينية الشكوك في أوروبا والولايات المتحدة، يظل استعداد الغرب للاستثمار في الموانئ محدود، وعلى سبيل المثال، تتبع مؤسسة التمويل الإنمائي الدولية الأميركية عملية أبطأ وأكثر صرامة في التعامل مع استثماراتها، وهو ما يؤدي عموماً إلى نتائج أكثر"عدالة" لكل من المستثمرين والدول المضيفة، ومع ذلك، فإن بعض الشركات الغربية تستحوذ على حصص في موانئ قائمة أو مبنية حديثاً في دول أخرى، وإن لم يكن ذلك بنفس درجة الشركات الصينية، وعلى سبيل المثال، تتضمن استراتيجية تطوير الموانئ العالمية لشركة الشحن والخدمات اللوجستية الفرنسية CMA CGM استثمارات في 60 محطة حول العالم، وفي عام 2024، استحوذت الشركة على أكبر محطة حاويات في أمريكا الجنوبية، وتحديداً في ميناء سانتوس البرازيلي.

يفرض ترمب رسوماً جمركية مشددة على الصين كوسيلة لمواجهة القوة البحرية العالمية التي تتمتع بها، وقد اقترح أحد مستشاريه فرض رسوم جمركية بنسبة 60 % على أي منتج يمر عبر ميناء تشانكاي في بيرو، أو أي ميناء آخر مملوك للصين أو خاضع لسيطرتها في أميركا الجنوبية وقد رفعت الصين شكوى منذ أيام، إلى آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية ضد فرض رسوم أميركية إضافية بنسبة 10 % على السلع المستوردة من الصين، ولكن بدلاً من إحجام الدول عن توقيع اتفاقيات الموانئ مع بكين، فإن هذا النوع من الإجراءات سيؤدي إلى تآكل نفوذ واشنطن الإقليمي، في المقابل، تتخذ الصين تدابير انتقامية، مثل حظر تصدير المعادن الحيوية إلى الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى، تستغل الدول المضيفة مثل بيرو والبرازيل المنافسة على الاستثمار في الموانئ لصالحها، حيث تهتم باستقطاب الغرب والصين، بشكل متزايد مما يؤكد أنها تتبنى استراتيجية استخدام الموانئ للعب في كل مكان على الساحة العالمية.

تحذيرات أميركية

قبل أيام، أدلى رايان بيرج، وهو مدير برنامج الأمريكتين ورئيس مبادرة مستقبل فنزويلا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بشهادته أمام اللجنة الفرعية للأمن البحري في مجلس النواب الأميركي بشأن خطورة استثمارات الصين في موانئ نصف الكرة الغربي، وقد ذكر في إفادته أن "الصين تعمل بسرعة على ملء الفراغ الذي خلفه رحيل القوات العسكرية الأميركية من بنما، كما يزيد وجودها من خطورة استخدام منطقة كولون الحرة لشراء تكنولوجيا مقيدة ذات استخدام مزدوج مدني وعسكري"، وفي هذا السياق، يشكل تزايد مشاركة الصين في الموانئ البحرية في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي تحدياً خطيراً للسيادة البحرية الأميركية، وحرية الملاحة، وأمن البيانات، وأمن سلسلة التوريد. ضمن السمات المميزة، يوجد أكثر من نصف موانئ الصين على ممرات شحن رئيسية ونقاط اختناق استراتيجية، ويعني هذا أن الصين أنشأت محطات موانئ في ثلاثة مواقع على الأقل في المكسيك؛ وموانئها تشيسون في قناة بنما، وميناء ضخم افتتح مؤخراً في تشانكاي في بيرو، وخطط لبناء ميناء عميق المياه في ميناء سانت جونز في أنتيغوا وبربودا، وتصميمات أخرى لبناء ميناء بالقرب من بونتا أريناس في تشيلي، وميناء آخر بالقرب من ممر دريك في الأرجنتين، وبعيدًا عن قوانين الأمن القومي لعامي 2015 و2020، تفاقمت المخاوف الأميركية للنشاط الصيني في موانئ أمريكا اللاتينية والكاريبي بسبب استراتيجية الصين للاندماج العسكري المدني. يستهدف الاندماج العسكري المدني، بناء الصين كقوة عظمى اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية من خلال دمج المؤسسات العسكرية والمدنية والدفاعية والتجارية، وبعبارة أخرى، ربطت الصين تنميتها الاقتصادية وزيادة مشاركتها مع العالم الخارجي بجهودها في تحديث الجيش، وقد شهد الاندماج العسكري المدني الاستفادة من المواهب في البحث والتطوير لتحقيق أهداف عسكرية، وفي عام 2021، أنشأت وزارة الدفاع الأمريكية قائمة بـ "الشركات العسكرية الصينية" التي تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في الولايات المتحدة، والتي تم تحديثها آخر مرة في أوائل يناير 2025 بـ 134 شركة، ويرى الأميركيون أن الموانئ التي تديرها الصين تجسد هدفها المتمثل في الاستفادة من الاستثمارات الاقتصادية كمرساة لدعم المشاركة العسكرية.

. خالد رمضان