أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمراً تنفيذياً، بإنشاء صندوق ثروة سيادي، معللاً ذلك برغبته في «تعزيز الاستدامة المالية، وتخفيف العبء الضريبي على الأسر الأميركية والشركات الصغيرة، ويؤسس الأمن الاقتصادي للأجيال القادمة، ويعزز القيادة الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة على المستوى الدولي»، وعقب صدور الأمر الرئاسي، تعهد وزيري التجارة والخزانة بوضع خطة لصندوق في غضون 90 يومًا، ثم صرح وزير الخزانة سكوت بيسنت، بأن الصندوق سوف يكون جاهزًا للعمل في غضون الاثني عشر شهرًا القادمة.

ومع ذلك، فإن خريطة الطريق لتحقيق هذا الهدف الطموح غير واضحة، لأن غالبية صناديق الثروة السيادية في العالم مملوكة لدول لديها إما فوائض مالية، كما في حالة النرويج والسعودية والكويت وقطر والإمارات، أو دول تملك احتياطيات هائلة من النقد الأجنبي، كما في حالة الصين وسنغافورة، وهكذا، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه ترمب هو أن الولايات المتحدة لا تملك أياً منهما، فإيراداتها النفطية، رغم ضخامتها، تتضاءل مقارنة بتريليونات الدولارات التي تنفقها سنوياً، وعادة ما تملأ الحكومات صناديق الثروة السيادية بفوائض الميزانية، وهو ما لم تحققه واشنطن منذ عام 2001.

استلهام النموذج السعودي

خلال توقيعه الأمر التنفيذي بإنشاء الصندوق السيادي، استلهم ترمب التجربة السعودية، من خلال استشهاده بصندوق الاستثمارات العامة السعودي، قائلاً: إن «السعودية لديها صندوق سيادي كبير وإن الولايات المتحدة ستحاول اللحاق به من خلال صندوقها السيادي»، ويبدو أن الرئيس الأميركي لديه فكرة واسعة عن النموذج السعودي الناجح، والذي يحتل حالياً المرتبة السادسة عالمياً بين أكبر صناديق الثروة السيادية، وبأصول تقدر بنحو 925 مليار دولار، وفق آخر تصنيف لمؤسسة «إس دبليو إف» المتخصصة في دراسة استثمارات الحكومات والصناديق السيادية، وقد تصل أصوله إلى تريليونَي دولار بنهاية العقد الحالي، وهي تجربة في سبيلها لتحقيق المزيد من النجاح، حيث يستهدف الصندوق أن نتجاوز أصوله أربعة تريليونات ريال بنهاية 2025، علاوة على استحداث 1.8 مليون وظيفة بشكل مباشر وغير مباشر.

فكرة قديمة

تعد فكرة إنشاء صندوق ثروة سيادي أميركي، فكرة قديمة، جرى تنفيذها على نطاق محدود بعدد من الولايات، فهناك 23 ولاية أميركية لديها صناديق خاصة تمتلك أصولاً بقيمة 332 مليار دولار، وقد طرح ترمب فكرة إنشاء صندوق ثروة سيادي في سبتمبر 2024، قبيل إجراء الانتخابات، بل إنه سبق أن طرحتها وزارة الخزانة في عهد الرئيس السابق جو بايدن، فقد كانت إدارة بايدن تتطلع إلى صندوق استثماري يركز بشكل على القطاعات الاستراتيجية مثل المعادن الحيوية وتكنولوجيا الدفاع، وفي ذلك الوقت، اعتبر الكثيرون، أن هذه الفكرة بعيدة المنال، ولكن مع اكتساب هذه المبادرة المزيد من الزخم بفعل الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب، فقد حان الوقت بالتأكيد لتخيل الشكل الذي قد تبدو عليه صناديق الثروة السيادية الأميركية.

تعتبر صناديق الثروة السيادية من مدخرات الحكومة، والتي تتراكم على مدى سنوات عديدة من خلال بيع السلع الأساسية، والسلع المتداولة، والشركات المملوكة للحكومة، وحقوق استخدام الأراضي، من بين مصادر أخرى، وتتقاسم هذه الهيئات مجموعة متنوعة من الأهداف، مثل استقرار مالية الحكومة، وضمان تمويل برامج التقاعد أو التعليم، أو الادخار للأجيال القادمة، أو حتى إدارة الشركات المملوكة للدولة، وتقوم هذه الصناديق بتنويع الاستثمارات عبر الأصول والمناطق الجغرافية والقطاعات المختلفة، مثل الرياضة والترفيه، والتي تتوافق مع أهداف التنمية الوطنية.

ترتبط الصناديق السيادية بالثروات الضخمة، وعلى سبيل المثال، تقدر قيمة صندوق الثروة النرويجي، أكبر الصناديق السيادية في العالم، بنحو 1.8 تريليون دولار، وهي قيمة مماثلة في الحجم للناتج المحلي الإجمالي لأستراليا، وهي دولة يبلغ عدد سكانها خمسة أضعاف مثيله في النرويج، وفي حالة الولايات المتحدة، فإن صناديق الثروة السيادية ليست جديدة على الإطلاق، إذ توجد بعض صناديق الاستثمار ببعض الولايات، مثل صندوق المدارس الدائمة في تكساس، الذي تأسس عام 1854، وهناك العديد من الصناديق المماثلة في بعض الولايات مثل ألاسكا، ونيومكسيكو ، ووايومنغ، وكلها تعرف باعتبارها «صناديق ثروة سيادية»، وبطبيعة الحال، هذه صناديق تابعة للدولة الفيدرالية، ولكن مصطلح «سيادي» يُطبق بسخاء.

ويمكن لصناديق حكومات الولايات الفيدرالية، أن تكون نموذجاً للبناء عليه، وأكبر هذه الصناديق في ولاية ألاسكا، والذي تأسس في عام 1976، ويسيطر حالياً على أصول بقيمة 82 مليار دولار، كما تملك ولاية نورث داكوتا صندوقاً تأسس في عام 2010، ويسيطر على أصول بقيمة 11.5 مليار دولار، وتودع الولاية 30 % من عائدات ضريبة النفط والغاز في الصندوق شهرياً، وخلال أي دورة ميزانية مدتها عامان، يمكن للولاية الوصول إلى 5 % من الأموال، للمساعدة في تمويل المشاريع وتوفير الإعفاء الضريبي.

في كثير من الأحيان، تستثمر صناديق الثروة السيادية خارج مناطقها الجغرافية، ليس فقط لتنويع العائدات، ولكن لتجنب تحفيز التضخم المرتفع الذي قد ينتج عن الاستثمار في الداخل، وحالياً يوجد 206 صناديق ثروة سيادية في 86 دولة حول العالم، بأصول تتجاوز قيمتها 11 تريليون دولار، وتعتبر الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة وجهات جاذبة للاستثمار، نظراً لقوة مؤسساتها وحجم أسواقها المالية وسيولتها، وقد شهد العقد الماضي توسعاً سريعاً في عدد صناديق الثروة السيادية التي تستثمر في الولايات المتحدة، مثل الصناديق السيادية في السعودية وأيرلندا والهند وإندونيسيا، وتستثمر هذه الصناديق في قطاعات حيوية داخل الولايات المتحدة.

أسئلة أساسية

عند النظر إلى رؤية ترمب، نجد أن هناك عدة أسئلة تحتاج إلى إجابة، منها: كيف سيبدو صندوق الثروة السيادية الأميركي؟ وما هو حجم تمويله؟ وكيف سيحصل على التمويل، هل من خلال الضرائب، أو عائدات سندات الخزانة، أو تحويلات الميزانية، أو الرسوم الجمركية؟ وهل يمكن استثمار أمواله على المستوى العالمي أم المحلي؟ وهل يمكن استخدام أمواله لتعزيز نظام الضمان الاجتماعي؟ وهل يمكن استخدامها لمعالجة العجز المزدوج في الميزانية والتجارة؟ أم أنها ستكون ذات تفويض استراتيجي، بمعنى تعزيز الأمن الوطني، أو أمن الطاقة، أو أمن المناخ؟، وهذه كلها أسئلة أساسية لابد من دراستها بعناية، إذ لا ينبغي أن يكون إنشاء صندوق للثروة السيادية مجرد ممارسة تتم خلف الكواليس، بل لابد وأن يتم في العلن، مع الاستعانة بآراء الخبراء، وتتطلب هذه العملية اتخاذ قرارات تنظيمية وإدارية فيما يتصل بالهيكل القانوني، وملكية وإدارة الصندوق، واستقلال مجلس إدارته، وبعده عن تأثير الحكومة في قراراته.

من أين تبدأ الولايات المتحدة؟

من المثير للاهتمام أن وزارة الخزانة في عهد جورج دبليو بوش كانت الأكثر تأثيراً خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، في تشجيع صناديق الثروة السيادية على تحديد إطار لممارسات ومبادئ الحوكمة، وتُعرف هذه المجموعة من المبادئ الـ24، باسم مبادئ سانتياغو، وتهدف إلى ضمان حوكمة شفافة وسليمة مع وجود ضوابط تشغيلية كافية وإدارة المخاطر والمساءلة، وتثبت مبادئ سانتياغو أن صناديق الثروة السيادية تستثمر باعتبارها كيانات ذات توجه اقتصادي ومالي في أسواقها المحلية والعالمية.

ومن خلال الالتزام بهذه المبادئ، تساهم الصناديق في استقرار النظام المالي العالمي، وتقليص الضغوط الحمائية، والمساعدة في الحفاظ على مناخ استثماري مفتوح ومستقر، ولكي يكون صندوق الثروة السيادية الأميركي ناجحاً ومتماشياً مع مبادئ سانتياغو، فلابد أن يرتكز على هيكل حوكمة وظيفي يسمح بتقييم مشاريع الاستثمار على أساس الجدارة التجارية، ويجب أن يكون خالياً من التدخل السياسي وأن يعمل بشكل مفتوح وشفاف، بعيدًا عن أي مصالح شخصية أو مهنية لأي أطراف ذات صلة بالاستثمارات.

أين يستثمر؟

والسؤال التالي المثير يتركز حول أهداف واستراتيجية الاستثمار الخاصة بالصندوق، حيث اقترح ترمب استخدام الصندوق في شراء «تيك توك» المملوك للصين، ولكن، هل يمثل ذلك استثمارًا استراتيجيًا يعزز القدرة التنافسية للولايات المتحدة؟.. ربما يكون من الأفضل لصندوق الثروة السيادية أن يستثمر غالبية رأس ماله في الأسواق الخاصة والبنية الأساسية في الولايات المتحدة بموجب تفويض استراتيجي مركز يوجه الأموال نحو الأولويات الفيدرالية الرئيسية، والفلسفة الأساسية هنا أن يحقق الصندوق السيادي قيمة مضافة، وهذا يعني أنه يستثمر في مشاريع لن يتمكن مستثمرون آخرون من تمويلها بمفردهم بسبب حجمها أو صعوبتها أو مدتها، وفي جوهر الأمر، يجب أن يعمل الصندوق على حشد المستثمرين، وليس استبعادهم.

ولعل السؤال الأكثر أهمية: من أين ستأتي الأموال؟.. تعتبر زيادة الضرائب أمراً غير وارد بسبب الإرادة السياسية، والتزامات حملة ترمب، كما أن إصدار سندات الخزانة لن يؤدي إلا إلى زيادة ديون الولايات المتحدة، التي تتجاوز الآن 35 تريليون دولار، والتوسع في إصدار سندات الخزانة قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم، علاوة على ذلك، فإن تخصيص الأموال من ميزانية الحكومة الفيدرالية ليس بالأمر السهل، لأن عجز الميزانية راسخا منذ فترة طويلة، وقد اقترح ترمب أن يستخدم الصندوق مدفوعات التعريفات الجمركية، إلا أن تنفيذ التعريفات الجمركية ربما يكون موضع شك، بعد إرجاء تنفيذها مثلاً على كندا والمكسيك، وهي أيضاً عرضة للتفاوض، حيث تستخدم الرسوم الجمركية كأداة ضغط ليس إلا.

ولدى الولايات المتحدة ثلاثة خيارات لتمويل الصندوق السيادي، أولاً: تحمل المزيد من الديون عن طريق الاقتراض من السوق، وثانياً: بيع أصول الحكومة الأمريكية، وثالثاً: جمع الأموال من خلال الضرائب والرسوم الجمركية، وقد ألمح ترمب إلى تفضيلاته، قائلاً خلال حملته الانتخابية إن ذلك سيأتي من «الرسوم الجمركية وأشياء ذكية أخرى»، كما أشارت ورقة الحقائق المرفقة بالأمر التنفيذي إلى أصول بقيمة 5.7 تريليون دولار تمتلكها الحكومة الأمريكية حاليًا، ولا شك أن الاستفادة من هذه الأصول لتمويل الصندوق ستكون عملية طويلة، حيث يجب توضيح سبب بيع أصل معين لشراء أصل آخر، وقد يؤدي أي خطأ في عملية التمويل إلى تأثيرات مباشرة على أولويات ترمب الاقتصادية.

ربما يكون الخيار العملي لدى إدارة ترمب هو تبني نموذج الشراكة المحدودة للأسهم الخاصة، فمن خلال هذا النموذج، تعمل الحكومة الأميركية كشريك عام، بحيث تنضم إلى مستثمرين مؤسسيين آخرين، بما في ذلك صناديق الثروة السيادية الأخرى، للاستثمار في الصندوق الأميركي، وباعتبارها شريكاً عاماً، سوف تعين إدارة ترمب فريقاً إدارياً يتولى اختيار الاستثمارات وإدارتها، وسوف يتركز تفويض هذه الإدارة على استهداف العائدات السوقية القوية، وتعزيز المصالح الاستراتيجية، لكن، هذا النهج سوف يتطلب التزاماً أولياً من جانب الولايات المتحدة بضخ جزء من رأس مال حتى ولو كان قليلاً، وبكل تأكيد سوف تمنح هذه الإدارة سلطة تقديرية في تحديد أماكن وكيفية توجيه الاستثمارات.