تطويع قراءة الأفكار باستخدام الذكاء الصناعي مفيد في الجانب الصحي، وربما ساعد ذوي الإعاقات الحركية والذهنية في تجاوز مشكلاتهم والتحول لأشخاص عاديين، بإحلال أطراف ذكية تقرأ أفكار الدماغ وتحولها الى أفعال حركية، أو في التخلص من الصرع والفصام والتوحد، وتمكين مصابي السكتات الدماغية ومن تعرضوا لإصابات في الدماغ ومرضى سرطان الحنجرة والتصلب اللويحي من الكلام والحركة الطبيعية..
في بداية الألفية الثالثة تكلم الفيلم الهوليودي: (ما تريده النساء)، وهو من بطولة ميل غيبسون، عن رجل ضربته صاعقة وأصبح قادرا على قراءة أفكار النساء، أو ما يدور في عقولهن، وما استطاع سماعه أزعجه جدا، وبالأخص ما كانت تفكر فيه ابنته المراهقة، لدرجة أنه حاول الانتحار، وهذا الفيلم يتكلم عما يعرف بالتخاطر، والحقيقة انه ليس وهماً بالمطلق، فقد أجريت تجارب علمية عليه، أبرزها تجربة أجريت عام 2014 في مختبر بجنوب الهند، وقامت بالربط بين دماغي شخصين بينهما آلاف الكيلومترات، وذلك بواسطة خوذة مزودة بقطب كهربائي يرصد الموجات الكهرومغناطيسية التي تخرج من الدماغ في العادة، وقد كان الأول في الهند، والثاني في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، والتجربة نجحت في تناقلهما لكلمات معينة وبنسبة خطأ تقل عن 10 %، ومجلة (نيتشر) البريطانية المعروفة، وصاحبة الموثوقية العلمية نشرت في 1973 دراسة عن التخاطر باستخدام الرسومات والصور، شاركت فيها وكالة (ناسا) الأميركية، وتم إجراؤها على رجل يعتقد بامتلاكه لقدرات خاصة، ورغم وصولها في نتائجها إلى الاعتراف الجزئي بالموضوع، إلا أنها أخفقت تماماً في التأكيد على صدقية وثبات هذه الظاهرة، وتعرضت لانتقادات كثيرة في الأوساط العلمية.
أول من صاغ مصطلح التخاطر بمفهومه المتعارف عليه، هو الشاعر والفيلسوف الإنجليزي فريدريك مايرز عام 1882، ولدرجة إنشائه لمؤسسة غير ربحية في بريطانيا تهتم بدراسة الظواهر الخارقة للطبيعة، والأمور في الوقت الحالي تجاوزت هذه المرحلة، زيادة على أنها لم تتوقف عند زراعة الشرائح السطحية أو العميقة في القشرة الرأسية للجمجمة، أو في داخل المخ، ومعها القبعات التي توضع على الرأس، ومن الأمثلة أنه في 2017 قام فريق من الباحثين في جامعة (هيتوتسوباتشي) اليابانية بتصميم نظام قادر على ترجمة وتحليل الموجات التي تخرج من الدماغ، لمعرفة ما يفكر فيه الأشخاص بدون أن يتكلموا، وقد شمل مجموعة من الأرقام والكلمات، واستطاع تخمين 60 % مما فكر فيه من خضعوا للتجربة.
استكمالا لما سبق، تمكن معهد ماساتشوستس للتقنية في أميركا، الذي يعرف اختصاراً بـ(إم آي تي)، من اختراع سماعة اسماها (ألتر أيغو) في 2018، يقوم الشخص بوضعها على محيط الأذن الخارجي، وهذه السماعة لديها نظام قادر على استقبال الإشارات العصبية الخارجة من الدماغ، بالإضافة للاشارات العصبية العضلية المرسلة إلى الفك والرقبة وقت التفكير، وتحويلها في ثوانٍ قليلة إلى كلمات مكتوبة بنفس لغة تفكير الشخص، أو بلغات أخرى من اختياره، وبطريقة تساعد الأشخاص غير القادرين على النطق من التواصل مع الآخرين بدقة تصل إلى 90 %، علاوة على إجراء عمليات بحث على الإنترنت، بدون أن يتحرك الشخص من مكانه، أو يغير في جلسته.
شركات الجوالات الذكية، وبفعل كل هذه التطورات، أصبحت هدفاً لاتهام منطقي نسبيا، وخصوصا فيما يخص توظيف أنظمة تجسس قادرة على قراءة أفكار الناس دون أن يتكلموا، ومن الشواهد؛ ما نشرته الكاتبة أنجيلا روكو في صحيفة (وول ستريت جورنال) تحت عنوان: جوالي يقرأ أفكاري، وذكرت أنها -كما هو حال أعداد كبيرة من الناس- كلما فكرت في شيء ظهر أمامها على الجوال، وبدون كلام أو إجراء عملية بحث، حتى أنها أصبحت تشعر بوجود شخص يعيش داخل عقلها، ولكنها لم تتعرض لمسألة المراقبة التي أشار إليها جورج أورويل في 1984، وتحديدا في روايته الـ(بيغ براذار يراقبك)، من أن الناس وأفكارهم سيكونان محل مراقبة في كل الأوقات، ولا أستبعد تحقق نبوءة أورويل، وأنها موجود ومطبقة، وفي أكثر من دولة متحضرة وديموقراطية، وفي مقدمتها دول العالم الأول، والدليل أن منصة فيسبوك تعاونت مع 60 عالماً في 2017 لتطوير واجهة إلكترونية تقرأ المسكوت عنه، وبما يعطي المخ القدرة على كتابة 100 كلمة في الدقيقة الواحدة.
تطويع قراءة الأفكار باستخدام الذكاء الصناعي مفيدة في الجانب الصحي، وربما ساعدت ذوي الإعاقات الحركية والذهنية في تجاوز مشكلاتهم والتحول إلى أشخاص عاديين، بإحلال أطراف ذكية تقرأ أفكار الدماغ وتحولها إلى أفعال حركية، أو في التخلص من الصرع والفصام والتوحد، وتمكين مصابي السكتات الدماغية ومن تعرضوا لإصابات في الدماغ ومرضى سرطان الحنجرة وباركنسون والتصلب اللويحي المتعدد من الكلام والحركة الطبيعية، ومن إعادة صوت (سيلين ديون) الملائكي إليها، وبذات الجمال والجودة القديمة.
إلا أن الخطورة تبدو في احتمال انتهاكها لخصوصية الناس، ومع الاعتقاد بالوجود البيولوجي للذكريات في مؤخرة الدماغ، أو في منطقة يسمونها (قرن آمون)، بحسب دراسة أجرتها جامعة لندن، ونشرت في مجلة (كورانت بيولوجي) في 2023، تصبح المسألة أكثر تعقيدا، لأن الذكريات كصور وكلام بالإمكان استعادتها مستقبلاً، وبالتالي استغلالها أو ابتزاز الآخرين بها، والمفترض أن تهتم المملكة بهذا المجال الحيوي، وتجعله من بين أولوياتها التقنية، ما لم تكن قد فعلت.