يدخل توظيف البيئة ضمن النسيج الأدبي، بمعنى أن البيئة قد تكون عنصراً رئيساً في الإبداع الأدبي، سواء أكان شعراً أم نثراً، فتتحكم البيئة في رسم صورة الأدب، وأمثلة ذلك كثيرة في تراثنا العربي، يمكن أن نلمسها في وصف المياه، والصحارى، والرمال، والجبال، والأحجار، والأشجار، والأزهار، والبحار، والأنهار، والحيوانات، والحشرات، والنبات، وتفاصيل البيئة الكثيرة والدقيقة. والمعوّل عليه في الظاهرة الإيكولوجية هو الإحساس والوعي، فوصف الشاعر القديم لأطلاله هو شعور بالبيئة التي كان يسكنها، لكن غوصه إلى أعماق تلك البيئة، ونفاذه إليها، وإحساسه بها -وربما أنسنتها- هو تمثيل للأدب البيئي في أوضح صوره.

ولننظر مثلاً إلى عنترة في قصيدته (لمن طلل بوادي الرمل..) إذا صحّت له، فعندما وصف الطير أخذ يوازن بينه وبين نفسه، فيقول: «وفي الوادي على الأغصان طيرٌ / ينوح ونوحه في الجو عالِ = فقلتُ له وقد أبدى نحيباً / دعِ الشكوى فحالُك غير حالي = أنا دمعي يفيضُ وأنتِ باكٍ = بلا دمعٍ فذاك بكاءُ سالي»، ولوصف الطير والإحساس به، ومحاولة أنسنة أحواله وأشكاله أمثلة كثيرة تمتد إلى الشعر العامي اليوم الذي لا يفتأ شعراؤه يصفون الطير في قصائدهم، كقولهم: يا طير، ويا طاير، ويا مومي الجنحان، ويكفخ كما الطير، وما أشبه ذلك.

ولنعد إلى عنترة الذي يمكن أن نصفه بالشاعر البيئي؛ ذلك أنه يكثر من توظيف البيئة في شعره بشكل يلفت الانتباه، ولو أجلنا النظر في معلقته لأدركنا السر، انظر إليه يصف الروض، ويغوص في وصف الذباب، فيستعرضه استعراضاً دقيقاً كما لو كان عالم أحياء يشرّح الحشرات، يقول: «وَخَلَا الذُّبابُ بِهَا فَلَيْسَ بِبَارحٍ / غَرِدًا كَفِعْلِ الشَّارِبِ الْمُتَرَنِّمِ = هَزِجًا يَحُكّ ذِرَاعَهُ بِذِرَاعِهِ / قَدْحَ الْمُكِبّ عَلَى الزّنادِ الأَجْذَمِ»، قال التبريزي في شرح المعلقة: «فشبّه الذبابَ إذا سَنَّ ذراعَه بالأخرى برجُلٍ أجذم قاعدٍ يقدح ناراً بذراعيه»، ويكفي أن نتخيل عمق الصورة هنا؛ لكي ندرك دقة الحس البيئي الذي يصدر عنه الشاعر، فهو يشعر بأدق شيء من حوله يتأمله، وهو الحشرة الصغيرة، ثم يربطها بالإنسان في هيئة من الهيئات، وموقف من المواقف، وذلك ضرب من الأنسنة ينسجم مع التصور البيئي.

ومن يتأمل سيرة الشاعر العربي في علاقته مع الحيوان ووصف مشاعره، والإحساس به، سيجد كمّاً هائلاً من النماذج التي يمكن الالتفات إليها، والوقوف عندها، ولعل في وصف الشعراء للإبل، والخيل، والغنم، والظباء، والذئاب، والضباع، والسباع، إضافة إلى الطيور –الأليفة أو الجارحة- كالنعام، والحمام، والصقور، والنسور، والعقبان، والغربان، والبوم، والبلابل، والهداهد، ونحوها، ما يدل على عمق الإحساس بالبيئة، والوعي بقيمتها وتأثيرها، حتى إن بعضهم أفرط في عرض تلك العلاقة، كما هو الحال عند طرفة في وصف الناقة، وكذا الحال عند بعض شعراء المعلقات الذين توسّعوا في وصف الحيوان، ومعايشة أنماطه.

كل ذلك الإحساس البيئي جعل شاعراً، وهو الأحيمر السعدي، يقلب المعادلة في قوله: «عوى الذّئب فاستأنستُ بالذّئب إذ عَوَى / وَصَوّتَ إنسانٌ فكدتُ أَطيرُ»، وذلك لأنه وصل إلى مرحلة من الاندماج مع الحيوان، وليس التوافق معه فحسب، وكذا كان الشنفرى الأزدي الذي جعل الحيوانات المفترسة «هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِع..»، والأمثلة على تلك الأنموذجات (الإيكولوجية) أكثر من أن تحصى في تراثنا الأدبي.