ما أزال أتذكر انبهاري بأسلوب التعليم في معهد "إنسياد" بالقرب من باريس، إذ لم يقتصر المحتوى التدريبي على الإطار النظري والأمثلة كعادة الدورات التدريبية، بل تجاوز ذلك إلى دراسة حالات حقيقية، لتطبيق النظريات والمعارف التي عرضت، ومناقشة القرارات، مما رسّخ المعلومة، وعمّق الفهم.

فكرة استغلال الحالات والتحديات التي تمر بها الشركات ليست جديدة، بل بدأت منذ أكثر من قرن! إذ تعد دراسة حالة شركة "الأحذية العامة" أول دراسة حالة استخدمتها كلية هارفارد للأعمال عام 1921م، لتحليل المشكلات التي تواجه قطاع الأعمال، بهدف تعليم الطلاب سُبل التعامل مع واقع المشكلات الإدارية، واتخاذ قرارات استراتيجية بناءً على البيانات المتاحة، وكانت نقطة انطلاق لمنهجية دراسة الحالات، لتقوم الكلية بتطوير الأسلوب تدريجياً، ويمسي أداة تعليمية مهمة، تُستخدم في كليات الأعمال حول العالم.

والمميز في دراسة الحالات أنها تطوّر المهارات التحليلية للدارسين بشكل حقيقي، وتساعدهم على تحليل المشكلات الإدارية الواقعية، ورفع قدرات التفكير الاستراتيجي وكذلك النقدي، وهي أفضل وسيلة لربط المفاهيم النظرية بالممارسات الفعلية في بيئات العمل، كما أنها تعزز مهارات اتخاذ القرار، لأنها تضع الدارسين في مواقف تتطلب اتخاذ قرارات صعبة، مما يساعدهم على اكتساب الخبرة في التعامل مع المواقف الحقيقية، ناهيك عن تحفيز النقاش والتعاون، وتعزيز مهارات العمل الجماعي وتبادل الأفكار، والرائع أن كل ذلك يمنح الدارسين فرصة محاكاة سيناريوهات إدارة الأعمال دون المخاطرة!

ولكن بقدر ما تساعد هذه الحالات على اكتساب المهارات، بقدر كونها لا تكسب فهم عميقاً لبعض البيئات التنظيمية أو الخلفيات الثقافية، لأنها غالباً ما تكون لشركات غربية، ومن النادر وجود حالات لشركات تنشط في بيئتنا أو منظومة اقتصادنا، وهنا تمكن أهمية وجود حالات دراسة لشركات سعودية أو عالمية تنشط في أسواقنا.

للأسف لم تعمل كليات الأعمال في الجامعات السعودية على ذلك، إلا بعض الجهود الفردية من المختصين، حتى أنشئ قبل سنوات "مركز دراسة الحالة" في كلية الأمير محمد بن سلمان للإدارة وريادة الأعمال، الذي حمل لواء جمع وتوثيق دراسات الحالة المتعلقة بالمملكة والشرق الأوسط.

نشر الركز حتى الآن ثماني دراسات متعلقة بالقطاع الثقافي بالتعاون مع وزارة الثقافة، تغطي موضوعات الاقتصاد الإبداعي وتحديات التوسع والنمو، كما نشر دراسات تسلط الضوء على تأثير التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي على ريادة الأعمال في المملكة. كانت إحداها ضمن أفضل عشر دراسات حالة تعليمية، ناهيك عن جمع دراسات ريادة الأعمال السعودية، بما في ذلك استراتيجيات القيادة وإدارة المشاريع الناشئة في بيئات الأعمال المتغيّرة.

بالطبع لا يزال هناك فجوة تحتاج أكثر من مركز متخصص، واهتماماً أكبر من شركاتنا السعودية، وبالذات الكبرى منها مثل أرامكو وسابك والمراعي وغيرها، لتوثيق الحالات التي تمر بها، حتى تتعظم الاستفادة وتتوارث الخبرات.