عنصر النجاح الحقيقي يكمن في اكتشاف ما نملك، وأن نعمل على تطويره، وأن نكون قادرين على تسويقه للعالم.. فكرة "عالمية الحرف السعودية" لن تتحقق إلا من خلال قبول التنافس مع العالم واكتشاف ما يميزنا عن بقية هذا العالم، ومن ثم العمل على تطويره وتقديمه بأسلوب يرضي الذائقة المعاصرة..
هذا العنوان الجاذب الذي يحاول أن يعيد للفنان الحرفي -الذي أثرى الحضارة الإنسانية منذ أن وطأ البشر الأرض- بعض قيمته، هو عنوان المؤتمر العالمي للفن الإسلامي الذي ينطلق اليوم الأحد (24 نوفمبر) في نسخته الثانية بشراكة تنظيمية بين مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) بشركة أرامكو السعودية، وجائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد ومشاركة العديد من المؤسسات المحلية والعالمية الداعمة للفن الحرفي حول العالم.
يجب أن نذكر أن المؤتمر يهتم بالفن الإسلامي على وجه الخصوص، ويقدمه في بعدين زمنيين، الأول مرتبط بالإسهامات التاريخية للفنان الحرفي المسلم في شتى مجالات الفنون، والبعد الثاني الحالة المعاصرة لهذه الفنون وأبرز الحرفيين الذين لا يزالون يمارسون هذه الحرف والشكل المعاصر الذي بلغته. يعقد المؤتمر والمعرض في مبنى يستثير كل الحواس ويحفز الذائقة البصرية، بل ويطرح أسئلة عميقة على الحرفين أنفسهم قبل الجمهور، مبنى إثراء الذي يمثل تكوينا نحتيا أيقونيا لا يمكن أن تخطئه العين، ترتكز الفكرة الرئيسة للمؤتمر على إقامة معرض تفاعلي لمدة أسبوع بالإضافة إلى البرنامج العلمي للمحاضرات الذي يستمر لمدة يومين، ويهدف المعرض التفاعلي إلى خلق احتكاك مباشر بين الجمهور، خصوصا الشباب والأطفال، والفنان الحرفي من مناطق مختلفة في العالم. التركيز هنا على خلق التجربة المباشرة وبناء فضاء ثقافي قائم على المشاركة وليس التلقي والمشاهدة فقط.
الهدف البعيد لهذا المؤتمر مرتبط بالمسجد وعمارته، فكما هو معروف مثّل المسجد عبر التاريخ الإسلامي مفصلا مهما لتطور أغلب الفنون الحرفية فلا نكاد نذكر حرفة ارتبطت بالبناء أو بتسهيل وظائف الحياة إلا ونجدها تتقاطع مع المسجد وعمارته واستخداماته اليومية حتى أننا نكاد نقول إن المسجد كان هو المختبر الحقيقي لتطور أغلب الفنون الحرفية في التاريخ الإسلامي. وإذا ما حاولنا أن نربط هذا الهدف بالبعدين الزمنيين للمؤتمر سوف نجد أن هناك توسّعا هائلا في الرسائل التي يريد مؤتمر "في مديح الفنان الحرفي" أن يبعث بها للعالم.
ربما تكون الرسالة الأهم هي: هل نستطيع إعادة هذا الدور المعماري والحرفي للمسجد؟ هل يمكن أن يصبح المسجد مرة أخرى منبعا لكثير من الفنون البصرية ومسرحا لتطوير كثير من الفنون الوظيفية (الزجاج والخشب والحجر والطين والمنسوجات وغيرها كثير)؟ استعادة هذا الدور هدف كبير يتطلب إعادة التفكير في دور المسجد المعاصر والبحث في القضايا الرئيسة التي يفترض أن يخوض فيها مسجد المستقبل، فهذا المبنى العابر للثقافات والقارات هو ليس مجرد مبنى بل هو مؤسسة مُنظّمة للمجتمع وموجهة لرؤية للعالم بما في ذلك الفنون البصرية والوظيفية التي ينتجها.
الرسالة الثانية التي يبعث بها هذا المؤتمر هي أن "الحرفة" أحد محركات الاقتصاد المحلي، فالمسألة هنا ليس فقط اهتمام بالتاريخ وبالفن المعاصر بل بكيف يمكن أن يساهم هذا الفن في خلق اقتصاد محلي، ومديح الفنان الحرفي ليس بتقريضه بل بفتح مجالات اقتصادية واسعة أمامه. طالما ارتبطت فكرة تطوير الحرف التقليدية بخلق "علامات تجارية" لتلك الحرف التي يمكن أن تتوافق مع الذوق المعاصر، فهي تذكار من المكان وجزء من هويته، لكنها في نفس الوقت ممكن أن تكون قطعة فنية/ عملية ثمينة.
يجب أن أذكر هنا الخطوات التي قام بها الأمير سلطان بن سلمان عندما كان رئيسا لهيئة السياحة والتراث الوطني فقد أسس البرنامج الوطني للحرف والصناعات التقليدية (بارع) لكنه في نفس الوقت عمل على تأسيس شركة وطنية لتسويق الحرف. كان الأمر واضحا أن "الحرفة" تحتاج إلى "تسويق" حتى تكون مستدامة. لا يمكن الاعتماد على "العاطفة" في بقاء وتطور الحرف، لذلك فإن مؤتمر "في مديح الفنان الحرفي" يحاول أن يقول للعالم إن ربط الفنون التقليدية بالاقتصاد الممنهج المدروس هو المنقذ لهذه الفنون في المستقبل.
الرسالة الثالثة مرتبطة بالبعد العالمي للفنون التقليدية السعودية، فالسؤال المهم هو: هل تستطيع الحرف المحلية في المملكة منافسة الفنون الحرفية في مناطق مختلفة في العالم الإسلامي والعالم أجمع؟ المنافسة تعني التطوير والتسويق، ومشاركة مؤسسات سعودية كبيرة في المعرض مثل هيئة التراث والمعهد الملكي للفنون التقليدية وكسوة الكعبة ودار الفنون الإسلامية وغيرهم مع مؤسسات عالمية لها باع طويل في تخليق الفنون التقليدية بأسلوب معاصر يعني، بشكل أو بآخر، أن على المؤسسات المحلية أن تفكر كونيا وتعمل محليا، فعنصر النجاح الحقيقي يكمن في اكتشاف ما نملك وأن نعمل على تطويره وأن نكون قادرين على تسويقه للعالم. فكرة "عالمية الحرف السعودية" لن تتحقق إلا من خلال قبول التنافس مع العالم واكتشاف ما يميزنا عن بقية هذا العالم ومن ثم العمل على تطويره وتقديمه بأسلوب يرضي الذائقة المعاصرة.
يأتي هذا المؤتمر المهم نتيجة لشراكة استراتيجية طويلة بين مؤسسة لها أهدافها الثقافية الإصلاحية التي تريد من خلالها تقديم الثقافة السعودية للعالم من خلال جلب ثقافات العالم للمملكة، إثراء المؤسسة التي تشق طريقها بهدوء وترسخ أثرها بعمق، وبين مؤسسة جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد، المؤسسة العالمية التي تعمل على إعادة التفكير في العمارة المسجدية بكل الزخم الحرفي والفني والتقني والاجتماعي والثقافي الذي يحمله المسجد. هذا هو المؤتمر والمعرض الثاني بعد ثلاثة أعوام من المؤتمر الأول الذي ركز على بناء تاريخ المسجد من خلال تتبع القطع الفنية والمعمارية التي صاحبت تطوره. اللافت أنه صدر كتاب مهم نشرته دار النشر العالمية "روتلدج" في لندن وعنوان: "المسجد: توجهات في الفن والعمارة"، وسيكون الكتاب متاحا أثناء المؤتمر بإذن الله.