قضية الترقيات والوظائف قضية معقدة جدًا، وتحتاج لجهود جبارة وخطة عمل متقنة، وتحديدًا من قبل وزارات الموارد البشرية والمالية و(نزاهة)، وبما يضمن تحقيق العدالة الممكنة في الترقية والتوظيف وتوزيع الثروة في سوق العمل، وأتصور أن الحلول الصعبة ممكنة، وخصوصًا في زمن الرؤية وعرابها..

بعض خبراء ومستشاري الموارد البشرية في المملكة يقدمون الذكاء الاجتماعي على غيره في مسألة التوظيف والترقية، وهم يرون ان الكفاءة المهنية والجدارة والمؤهلات تأتي في المرتبة الثانية، ولا تمكن الموظف من الوصول لموقع محترم في السلم الوظيفي، ولانهم يحاولون شرعنة الواسطة والمحسوبية وتقعيدها نجدهم يربطون النجاح الوظيفي بشروط ضبابية من نوع فهم السياسة الداخلية لمكان العمل، والقدرة على اقناع الآخرين، والمهارات التفاوضية والعاطفية، والتماهي مع اللغة التي يستخدمها كبار الموظفين في حواراتهم واجتماعاتهم، ومعها الاحتفاظ بعلاقات ايجابية مع القيادات المباشرة والاشرافية، والأخير، في رأيي، يحتاج لتنازلات نظامية في بعض الاحيان لارضاء المسؤول التنفيذي المتطلب والانتهازي، وربما اثر في نزاهة الموظف ومهنيته ومبادئه وشكك فيها.

كل الاجهزة الحكومية وشبه الخاصة على المستوى المحلي لديها سياساتها غير المكتوبة في الترقيات والتوظيف، ومفاتيح نظامية لتسويغ هذه التصرفات، أخذت من واقع التجارب المؤلمة مع (نزاهة)، وبما يخرجها من دائرة الفساد والمحاسبة عليه، من ابرزها؛ اللوائح الداخلية للوزارت، ولجان الترقيات والتوظيف السرية، التي تضع شروطا تعجيزية امام من يستحق الترقية او التوظيف، وبطريقة تجعلها مناسبة لاشخاص دون غيرهم، وبحيث تتحول الى قانون، بمجرد الموافقة عليها من رئيس الجهاز، رغم انها لم ترد بالنص في انظمة وزارة الموارد البشرية، ولم يبقَ الا ان يأخذ السعوديون بالنموذج السويسري الذي لا توجد فيه مطبات قانونية تمنع الشخص من تزكية اصدقائه واقاربه أو توظيفهم، او كما هو الحال في ايطاليا، فقد كشفت ارقام وزارة العمل الايطالية ان 61% من مؤسساتها تعتمد في توظيف العاملين لديها على الوساطات الشخصية.

الاشكالية لا تخص دول الخليج او المنطقة العربية، وانما تمتد لكل العالم، وتدخل فيها الدول الفقيرة ودول المؤسسات والتشريعات، بالاضافة للديموقراطيات الغربية، التي تؤمن بعدالة توزيع الفرص بين الناس، وفي دراسة اجراها الاقتصادي الاميركي (ستيف واتس) عام 2015، وجد ان الطفل الذي يولد لعضو في مجلس الشيوخ فرصته في ان يصبح هو نفسه عضوا في المجلس، ان رغب، ترتفع بمعدل ثمانية آلاف و500 ضعف، مقارنة بمن لا يمتلكون هذه الميزة، ومثله من يولد للواء في الجيش الاميركي، ففرصته في ان يصل الى رتبة والده ترتفع بمعدل أربعة آلاف و582 ضعفا، ومن يولد لمدير تنفيذي فرصته في الحصول على وظيفة مشابهة لوالده ترتفع بمعدل ألف 859 ضعفا.

الأمر لا يتوقف عند المهن ويمتد الى الجوائز والانجازات الثقافية الكبري، ومن الامثلة، ان فرصة الشخص في ربح جائزة (غرامي) الموسيقية تزيد بمعدل ألف و497، اذا كان احد افراد عائلته قد حصل عليها، وامكانية فوزه بجائزة (بوليتزر) في الصحافة والأدب، تتضاعف بمقدار ألف و639، عندما يكون شخص من اسرته فاز بها مسبقاً، ويحدث هذا بفعل العلاقات السابقة مع النافذين واصحاب القرار، وذلك في المستويات المختلفة لكل مهنة أو جائزة، والمفارقة ان المهن العادية تخضع لذات المعادلة، فبحسب مسح اجتماعي في 2022، قامت به جامعة شيكاغو الاميركية، لوحظ ان فرصة الشخص في ان يكون طبيباً تتضاعف 19 مرة اذا كان والده طبيباً، و27 مرة في حالة ابناء المحامين.

كل ما سبق يخضع لديناميكية البناء المجتمعي، وعلاقات السلطة والثروة فيه، واقيام رؤوس الأموال الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للاشخاص، والتي يتم توارثها بين الاجيال، والدليل وجود عائلات معينة في حوزتها غالبية ثروات العالم، وقد تم تكوينها خلال فترة تتراوح ما بين ثلاثة الى ستة اجيال، كعائلة (والتون) مالكة محال (وولمارت) الاميركية الشهيرة، وتقدر ثروتها بـ259 مليار دولار، وعائلة (هرمز) الفرنسية، المعروفة في عالم الازياء والموضة، وثروتها تصل لنحو 150 مليار دولار.

المعنى ان من لديهم امتيازات سابقة، فرصتهم في الحصول على المزيد من هذه الامتيازات ترتفع، ومن لا يملكون ذلك، تكبر معاناتهم مع الحرمان من جيل لآخر، وفي تجربة على خيارين افتراضيين، قام بإجرائها علماء النفس في اميركا عام 2007، وسألوا فيها مجموعة من الاميركيين عن رأيهم في الطريقة الانسب لتوزيع الثروة، وكان الخيار الاول يعطي خمس المجتمع غالبية الثروة، والاربعة اخماس يحصلون على البقية، بينما الخيار الثاني يحتفظ لخمس المجتمع بثلث الثروة، والثلثين توزع بالتساوي على الأربعة اخماس، واختار 92% المجتمع الثاني و8% المجتمع الاول، والعجيب ان الخيار الذي لم يفضله الا 8% يمثل في الواقع شكل توزيع الثروة الحقيقي في المجتمع الاميركي، وما يصاحبه من امتيازات في كل شيء، والمجتمعات الاخرى في الشرق والغرب لا تبتعد كثيراً، وبالتالي فالقضية معقدة جداً، وتحتاج لجهود جبارة وخطة عمل متقنة، وتحديدًا من قبل وزارات الموارد البشرية والمالية و(نزاهة)، وبما يضمن تحقيق العدالة الممكنة في الترقية والتوظيف وتوزيع الثروة في سوق العمل، وأتصور ان الحلول الصعبة ممكنة، وخصوصًا في زمن الرؤية وعرابها.