ما تحتاجه سوريا اليوم هو المساعدة الدولية لفك التشظي الذي تعاني منه، وخاصة بعد أن تحولت إلى ممر دولي وإقليمي لأفكار سياسية لا يمكن تجاوزها إلا من خلال إعادة الفكرة الوطنية وحمايتها من التفتيت مرة أخرى، فكرة سوريا كوطن يستطيع أن يبني قوميّته دون تشتت هي التحدي الأكبر الذي ينتظر المرحلة القادمة..
لقد كانت منتجات الأيديولوجيا السياسية التي سادت سوريا خلال خمسة عقود أحد أبرز المعطيات التي أمكن من خلالها تفسير الحالة السورية، وكيف وصلت إلى هذه الحالة التي أصبحت نموذجا يستحق التساؤل في كيفية انهيار هذه الدولة ذات التاريخ والمكانة على خريطة الشرق الأوسط، نحن في العقد الثاني من الأزمة السورية منذ أن بدأت محاولات التصحيح ضمن سلسلة الثورات العربية، وهذا يعنى أننا أمام أسئلة كبرى، ولكن قبل الدخول في تفاصيل هذه الأسئلة لابد من الإشارة إلى أن العالم العربي بجميع دوله ليس له علاقة بما حدث في سوريا خلال الخمسين عاما الماضية، ولعل الحقيقة الأكثر وضوحا في هذا الجانب تقول إن ما حدث في سوريا كان نتاجا طبيعيا لأيديولجيات سياسية كان غير قابلة للحياة في طبيعتها.
أول الأسئلة يدور حول كيفية التخلص من الأيديولوجيات التي أنتجت هذه الأزمة حيث كانت الأفكار السائدة تزعم قدرتها على تفسير ملامح المجتمع السوري من خلال دفاع تلك الأيديولوجيا عن مسارات ثبت أنها جميعها خاطئة، لذلك فإن أي عملية إحلال أيديولوجي في الحالة السورية بعد نهاية النظام ستكون تكرارا لذات الخطأ، في الواقع أن الحالة السورية ستفتح الأسئلة الكبرى حول مستقبلها الذي يرث نظاما سياسيا تشكل وفق مسارات معقدة من التداخلات في تمرير السلطة والنفوذ، في الواقع يبدو أن التجربة الإنسانية التي عاشتها سوريا من خلال تذوقها منتجات الأيديولوجيا السياسية التي كانت سائدة ستؤدي بها إلى طريقين لا ثالث لهما؛ أما الانقلاب على تلك المرحلة وفرض روح التسامح والسلام وتعزيز الفكرة الوطنية، أو تبني أيديولوجيات تعيد ذات النتائج بعد عقود من الآن.
ثاني الأسئلة يدور حول اللاجئين وأين يعيشون الآن وكيف سيعودون؟، تقول آخر إحصائيات الأمم المتحدة أن هناك أكثر من ثلاثة عشر مليون مهجر من الشعب السوري مقسم بين سبعة ملايين ومئتي ألف نازح في الداخل وحوالي ستة ملايين ونصف المليون لاجئ وطالب لجوء في الخارج، استعادة هذه الأعداد ليست بالعملية السهلة وتتطلب بالتأكيد جهودا دولية، فكل دول العالم بلا استثناء تقريبا لديها جزء من تلك الملايين، والحالة التي يعيشها اللاجئون ليست كلها متساوية، ومع ذلك فإن سوريا تمتلك الفرصة لعودة شعبها مرة أخرى لأن الطريقة التي ساهمت في خروجهم لم تكن لأسباب صلبة مرتبطة بواقع اقتصادي مرير أو واقع ثقافي أو اجتماعي، سوريا يمكنها العودة بسرعة إلى الانتصاب مرة أخرى فلديها الامكانات المطلوبة لعودتها كدولة ناجحة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا؛ ولكن لن يحدث ذلك إلا بشروط وأسئلة ما بعد الثورة، وهي أسئلة عميقة أهمها الكيفية التي سوف تتجاوز بها سوريا سنوات مريرة من الفرض الأيديولوجي.
ثالث الأسئلة يناقش السرعة التي سوف تتخلص بها سوريا من الانقسام الدولي حولها؛ الشرق والغرب؟ ما تحتاجه سوريا اليوم هو المساعدة الدولية لفك التشظي الذي تعاني منه وخاصة بعد أن تحولت إلى ممر دولي وإقليمي لأفكار سياسية، لا يمكن تجاوزها إلا من خلال إعادة الفكرة الوطنية وحمايتها من التفتيت مرة أخرى، فكرة سوريا كوطن يستطيع أن يبني قوميته دون تشتت هي التحدي الأكبر الذي ينتظر المرحلة القادمة، فاليوم سقط السؤال الأساسي حول استمرارية النظام، وهذا السقوط جلب معه أيضا إمكانية كبرى لانسحاب داعمي النظام من الدول والتنظيمات من المشهد.
رابع الأسئلة يدور حول الدور العالمي والعربي لمنح سوريا الفرصة للعودة للحياة من جديد.. العلامة السياسية أو (البراند السياسي) الذي كان كانت سائدا في سوريا انتهى، وبانتهاء هذه العلامة السياسية هناك هزائم لاحقة لقوى دولية، لن تتوقف الأصداء الدولية للحديث عن ولادة سوريا الجديدة التي ولدت وهي تحمل عشرات الحبال السرية التي يجب أن تقطع بسرعة، فقد كانت سوريا في مراحل مختلفة من حياتها خلال الخمسة العقود الماضية مسرحا وقف على خشبته الكثير من المستفيدين الذين سيجدون أنفسهم اليوم خارج هذا المسرح، وهنا تأتي الحاجة الدولية الماسة للتدخل المباشر لتهدئة سوريا ومنحها الفرصة للعودة للحياة من جديد عبر احتضانها من جيرانها العرب الراغبين في إنقاذها وإعادتها الى حضنها العربي.
رحيل النظام السوري يعنى أن لدى سوريا والسوريين الفرصة للعيش من جديد، رغم التحديات التي يواجهها ملايين السوريين، فسوريا اليوم تمتلك الفرصة لتحقيق الانتقال السياسي الذي يتمناه الجميع عبر تطبيق قرار الأمم المتحدة 2254، وهي اليوم تنفرد بفرصة مثالية للعودة إلى الازدهار وتحقيق الإنجازات السياسية المطلوبة بعيدا عن احتكار أيديولوجي أو سياسي، سوريا بحاجة إلى وقفة دولية تنقذها من طموحات محيطها وخاصة التدخلات الإسرائيلية التي يمكنها أن تعيد خلط الأوراق من جديد.