تمارس البيئة دورها في تفعيل الذاكرة الجينية، بمعنى أن الإنسان إذا عاش في نفس بيئة جده الخامس عشر فإنه سيستعيد ذكرياته والأحداث التي عايشها، وربما مهاراته وخبراته الحياتية، وبذات الجودة أو الرداءة، وقد يختلف عن غيره ممن لم يعايشوها، وحتى الأجنة يرثون ما تمر به الأم في فترة الحمل..

بعض المختصين في المملكة يهتم بالجانب الوراثي، ويعمل على ربطه بتميز ونجاح الأشخاص في الحياة، وهم يعتقدون أن هناك عوائل دون غيرها لديها جينات وراثية غير عادية، وأنها بمثابة مخازن للقادة والمتفوقين علميا وعمليا في المجالات المختلفة، والرسول عليه الصلاة والسلام أوصى في الحديث الصحيح بضرورة اختيار النطف المناسبة لأن العرق دساس، وتوجد مقولات شعبية تشير لدور العم أو الخال في هذه المسألة، ورغم عدم واقعيتها في شكلها الخارجي إلا أنها تمثل حقيقة علمية تم الاتفاق عليها منذ زمن.. ومن الأمثلة، أن عائلة الموسيقي الألماني يوهان باخ تضم موسيقيين بارزين في مجالهم، وعائلة تشارلز داروين فيها عباقرة وعلماء، وعائلة ماري كوري يهتمون بالفيزياء، وعائلة ليو تولستوي في روسيا غالبيتهم أدباء، وتوصلت الدراسات التي تناولت السجلات العائلية للمبدعين، وبالأخص في مجالات الموسيقى والنحت والرياضيات ممن لم يحصلوا على تدريب فيها، إلى أن كل واحد من هؤلاء كان لديه جد مميز ومبدع في مجاله، ما يعني أن المهارة تنتقل بواسطة الجينات.

بالإضافة لما سبق، أكدت الدراسات انتقال نمط الشخصية بالوراثة، وأن الاستعداد الجيني الموروث ينشط في حالات معينة، وتحديداً عندما تكون الظروف البيئية محفزة لظهوره، ويكون هذا في شكل مرض أو فوبيا أو مهارة أو معرفة موروثة، تمت برمجتها في جينات الشخص، وانتقلت إليه من أجداده، وقد ثبت بالدليل العلمي أن الحمض النووي للإنسان لديه قدرة تخزين هائلة، وغرام واحد منه قادر من الناحية النظرية على حفظ 455 إكسابايت من البيانات الرقمية، استنادا لدراسة أجرتها جامعتا هارفرد وجونز هوبكنز، وبالتالي لا يمكن تصور إمكاناته البيولوجية في الاحتفاظ بالمعلومات والمهارات والخبرات، ومعها الممارسات اليومية والأنماط الفكرية، وبما يسمح بانتقالها من الأجداد إلى الأبناء، وفد تبدو فكرة التخزين الرقمي مجنونة، ولكنها موجودة وتم إثباتها بالتجربة.

البيئة بدورها تمارس دورا في تفعيل الذاكرة الجينية، والمعنى أن الإنسان إذا عاش في نفس بيئة جده الخامس عشر فإنه سيستعيد ذكرياته والأحداث التي عايشها، وربما مهاراته وخبراته الحياتية، وبذات الجودة أو الرداءة، وقد يختلف عن غيره ممن لم يعايشوها، وحتى الأجنة يرثون ما تمر به الأم في فترة الحمل، ومن الشواهد، أن الأطفال الذين ولدوا لنساء حملن بهم أثناء معاناتهن مع الجوع والمرض في فترة المجاعة الهولندية أيام الحرب العالمية الثانية، زادت لديهم معدلات الإصابة بأمراض القلب والسمنة، والأخيرة حدثت بفعل أمراض التمثيل الغذائي، كمرض السكري من النوع الثاني، لأن أجسامهم برمجت جينياً على الاحتفاظ بكمية من السعرات الحرارية تحسباً لاحتمالات تكرار المجاعة.

في المقابل لوحظ ارتفاع معدلات الكورتيزول والإصابة بالفوبيات والصدمات النفسية والعصبية بين من ولدوا لأشخاص نجوا من مجازر وإبادات جماعية، في إعادة لتجربة أسلافهم معها، وفي دراسة أجريت على نساء كن يتواجدن وهن حوامل في مركز التجارة العالمي بمدينة نيويورك، في يوم تفجير البرجين عام 2011، وجد الباحثون ان أطفالهم بعد الولادة كانوا يعانون من ارتفاع غير طبيعي في هرمون الأدرينالين، وهو هرمون لا يفرز الا في الأوقات الصعبة ولخفض التوتر.

الجينات مهمة ومؤثرة في المجتمعات بأنواعها، ومن الأدلة، دراسة قامت بها جامعة (سنترال لانكشاير) البريطانية في 2016، على أداء 67 رياضياً شابا في مختلف الرياضات، ولأكثر من ثمانية أسابيع، بعد عمل اختبار عليهم اسمه (دي إن إيه فيت) وهو يقوم بعمل فحص لأربعة عشر جيناً وراثياً، تتحكم في عملية هضم وتخزين وحرق الطعام، وفي قدرات الجسم العضلية ومستوى اللياقة، ومن ثم وضعت لهم برامج تدريبية تتناسب وطبيعة جيناتهم، ووجدوا أن من مارسوا برامج منسجمة مع إمكاناتهم الجينية، ارتفع أداؤهم الرياضي بمعدل ثلاثة أضعاف مقارنة بالآخرين، وبدون منشطات، وحصلوا على حميات غذائية أفضل، ولم يحتاجوا لأدوية رشاقة.

الاستعداد لتعلم لغة الوالدين الأصلية فطري وينتقل بالوراثة، ويدخل في ذلك السلوك الإجرامي والعدواني والقابلية لإدمان المخدرات، ويعتبر التعصب لعقيدة أو ديانة سماوية أو أرضية من الذكريات الجينية المنقولة وراثياً، بمعنى أن الشخص قد يدافع عنها بدون معرفة مسبقة، ولمجرد تكوين أجداده لخبرات عنها، وبالتالي فكل ما يكتسبه الوالدان قبل عملية التزاوج، يسجل في الشفرة الوراثية، ويقبل التوريث لأبنائهم وأحفادهم جينيًا، والموضوع تمت مناقشته في أعمال سينمائية وأدبية، من أبرزها، فيلم (اساسين غرايد)، المأخوذ من ألعاب الفيديو، وفيها كان باستطاعة الشخصية المركزية تذكر الأحداث التي عاشها أجدادها إلى الجد الرابع عشر، وفي رواية (1984) لجورج اورويل، جاء على لسان واحدة من شخصياتها أن الناس لهم ذاكرة سلفية، وفي رأيي الشخصي، الحتمية البيولوجية تسيطر وتتحكم في الحتمية الثقافية المكتسبة، وتقرر حدودها وليس العكس، وأميل لأصحاب التفاعل ما بين البيولوجي والثقافي، وبنسبة 75 % للأول و25 % للثاني.