مع إعلان العام 2025 عام التأثير في المملكة، يثار السؤال الملح والأكثر جدلية في عصرنا الرقمي المتسارع الذي أصبحت فيه كلمة “مؤثر” مصطلحًا شائعًا يستخدم لوصف الأفراد الذين يمتلكون القدرة على توجيه آراء وسلوكيات الآخرين عبر وسائل الإعلام الاجتماعي. ولكن هذا المفهوم، الذي يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، يحمل في طياته جدلية عميقة تتعلق بتعريف المؤثر، قيمة تأثيره، ودور المتأثرين في تشكيل هذه العلاقة.

تقليديًا، كان المؤثر هو ذلك الشخص الذي يمتلك سلطة نابعة من خبرة مهنية، مكانة اجتماعية، أو موهبة استثنائية في مجال معين. ومع تطور وسائل الإعلام، توسع هذا المفهوم ليشمل شخصيات عامة، مثل الفنانين والرياضيين، الذين كانوا يتمتعون بمنصات واسعة التأثير.

أما اليوم، في عصر الإعلام الاجتماعي، أصبح تعريف المؤثر أكثر مرونة وغموضًا في ذات الوقت. يمكن لأي شخص يكتسب عددًا كبيرًا من المتابعين عبر منصات مثل أكس أو سناب شات أو تيك توك أن يُعتبر مؤثرًا، بغض النظر عن محتوى رسالته أو عمق تأثيره، بل يكفي أن يملك أحدهم أو تملك إحداهن مقومات أخرى ليصبحوا مؤثرين بفعل "المؤثرات"، فيُقدم صاحبه على المفكرين والأدباء والخبراء في كثير من البرامج والمنتديات والمؤتمرات التي تتسابق على استضافة "المؤثرين" طمعًا بمتابعيهم لا بمحتواهم.

هذا التحول أثار تساؤلات حول المعايير الحقيقية التي تُحدد من هو المؤثر؛ فهل كل مؤثر هو مؤثر حقا؟؛ وحول جودة التأثير ذاته، فكما أسلفت ليس كل تأثير إيجابي بل ثمة تأثير سلبي، منه ما قد يهدد الوعي المجتمعي ويفسد صورة "البطل والقدوة" لدى الأطفال والمراهقين والشباب فيصبح "المهرجون" هم القدوة والمثال الذي يحتذى به لديهم!

سابقا؛ كان التأثير يُقاس بناءً على مدى تغيير قرارات الجمهور أو سلوكهم. على سبيل المثال، كان المؤثر قادرًا على حث الناس على شراء منتج معين أو تبني فكرة جديدة. اليوم، ومع ازدياد التركيز على أرقام التفاعل (الإعجابات، التعليقات، والمشاركات)، أصبحت قيمة التأثير أحيانًا سطحية، تعتمد على مظاهر خارجية أكثر من المضمون.

هذا التغير دفع العديد من النقاد إلى التساؤل: هل التأثير الفعلي يقاس بعدد المتابعين أم بمدى عمق الرسائل التي يقدمها المؤثر؟ على سبيل المثال، هل المؤثر الذي يشجع جمهوره على قراءة كتاب أو تطوير مهارة شخصية له التأثير ذاته كالشخص الذي يروج لمنتجات تجارية استهلاكية؟

جدلية لا يمكن الحديث عنها دون الإشارة إلى دور المتأثرين، الذين يُعتبرون جزءًا لا يتجزأ من المعادلة. في ظل التحول الرقمي، أصبح سلوك المتأثرين معقدًا. هناك من يتبع المؤثرين بوعي، مدركًا للقيمة التي يقدمونها، وهناك من يتبعهم بشكل غير واعٍ، مدفوعًا بالعاطفة أو تأثير المجتمع.

على سبيل المثال، تشير العديد من الدراسات إلى أن الأجيال الشابة تتأثر بشكل كبير بالرموز الرقمية، حتى عندما يكون تأثير هؤلاء المؤثرين غير ذي قيمة حقيقية. هذه الديناميكية تفتح المجال لمناقشة دور المسؤولية الشخصية في اختيار المؤثرين الذين نتبعهم ومدى وعي الجمهور بما يستهلكه من محتوى.

ولأننا في عالم سريع التقلب، تُعيد وسائل الإعلام الاجتماعي تشكيل مفاهيم التأثير باستمرار، حيث ظهرت مفاهيم جديدة مثل “النانو-إنفلونسر” و”الميكرو-إنفلونسر”، الذين يركزون على التأثير العميق ضمن جماهير محددة وصغيرة. هذه الفئة، رغم صغر عدد متابعيها مقارنة بالمؤثرين الكبار، غالبًا ما تكون أكثر تأثيرًا بسبب المصداقية والاتصال المباشر مع الجمهور.

وفي مقابل ذلك، ظهر مفهوم المؤثرين الذين يروجون للقضايا المجتمعية والإنسانية، مما يبرز جانبًا أكثر إيجابية وعمقًا لدور المؤثر، بعيدًا عن التسويق التجاري.

على أي حال؛ تظل جدلية تعريف المؤثر وقيمة التأثير مفتوحة للنقاش، خاصة في ظل التغيرات السريعة التي تشهدها منصات التواصل الاجتماعي وسلوكيات المتابعين. ربما نحن بحاجة إلى إعادة صياغة المعايير التي تحدد من هو المؤثر الحقيقي، والتركيز على جودة المحتوى وعمق الرسالة بدلاً من الاعتماد فقط على أرقام المتابعين أو الإعجابات.

في النهاية، يبقى التأثير مسؤولية مزدوجة، يتحملها كل من المؤثرين والمتأثرين والجهة الرقابية، مما يجعل من الضروري أن نطور وعيًا جمعيًا يُمكّننا من التمييز بين التأثير الحقيقي والتأثير السطحي في هذا العالم المتشابك؛ فأن تكون مؤثرًا يعني أن تتحمل مسؤولية اجتماعية وأخلاقية. إذ يجب على المؤثرين أن يتحروا المصداقية فيما يقدمونه، وأن يكونوا على دراية بتأثير كلماتهم وأفعالهم على جمهورهم. كما يجب على المتأثرين أن يمارسوا النقد والتحليل تجاه المحتوى الذي يستهلكونه، وأن يميزوا بين ما يخدم مصلحتهم وما لا يخدمها، والجهة الرقابية المسؤولة عن ما يُبث ويُنشر في منصات التواصل الاجتماعي بالمتابعة والحد من تكاثر مثل هذه الظواهر الفقاعية وتأثيرها السلبي على مجتمعنا وأجيالنا.