الحضارة التي تعطي ثقافتها السائدة الأهمية الكبرى للتسلية وتشكيل المتعة وتجنّب كل ما يثير التفكير فيها، ستجعل الثقافة تتغيّر من مضمونها على مدى عقود قليلة وتنصهر انهيارًا إلى حيث لم تعد مرادفة للفكر والنقد وطرح الأسئلة الجوهرية لصناعة الحياة ومستقبلها..
في أول ظهور لمنصة التواصل الاجتماعي "تويتر" وانتشارها في أكتوبر 2007م، حيث بدايات تقديم تدويناتها المصغرة، أصدرت حينها مجلة التايم الأميركية الشهيرة عددًا أفردت على غلاف عددها عنوانًا رئيسًا يصف "تويتر" بأنه ثورة "مريبة" فى عالم الاتصالات، وتناول رئيس تحرير المجلة بنفسه الموضوع مخصصًا صفحةً كاملة ليتناول فيها أهمية "تويتر" بعد أن عرف العالم منصة فيس بوك، وومضات من بدايات عالمنا المتسارع اليوم نحو ثورته الجامحة في عالم الاتصالات، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي بعوالمها واتجاهاتها المختلفة.
ومن حينها ونحن أمام ثورة تواصلية هائلة، لكننا نختلف في تقييمها كل حسب رؤيته وثقافته واتجاهاته واستعداداته وخبراته وإدراكه لحجم الإيجابيات والسلبيات الكامنة فيها، وكذلك نحو تأثيرها في الحضارات والمجتمعات ثقافيًا وتربويًا واجتماعيًا.. حتى إنها غدت أدوات سلمٍ وأمنٍ معًا، وفي المقابل قنابل مدوية انتشارًا للعنف، وللحروب الباردة التي باتت عالميًا وشريكًا بفضل تلك الثورة من وجهة نظر كثيرين كسلاح تستعمله الدول بجنودها وخلاياها الوهمية الجديدة المريبة.
وفي منعطف آخر إثباتًا على المستويين الذاتي والنفسي، نجد اليوم كثيرًا منا لا يستطيع أن يفترق دقائق معدودة عن جهاز جواله.. حد الدهشة والإدمان الحقيقي، وفي المنعطف نفسه نجد أيضًا صغارنا وشبابنا وكأفراد أسرنا ومجتمعنا تحت تأثير جهاز مشغولين به هوسًا وتعلقًا، حتى انتقلت التقنية من "الجزئية" إلى "الكليّة" في حياتنا اليومية والطبيعية، وتحولت مع الوقت إلى "عبودية" مطلقة لبرامجها الاجتماعية التي لا نستطيع أن نتخلى عنها؛ تلك ببساطة ثورة اتصالات مذهلة انطلقت بسرعة النانو حتى لم تعد تحت السيطرة، ومن هنا تتبدى خطورتها التي استقطبت كثيرين إلى حد الاستغراق والالتهام، وغدت أسفًا تقودنا ولا نقودها.
والمحصلة البدهية المباشرة أن ثورة الاتصالات باتت عبئًا وهمّاً يقضّان مضاجع التربويين والمثقفين والمهمومين بالحضارة الإنسانية وبثقافات الشعوب المختلفة للدرجة التي دفعت كثيرين من المبدعين العالميين إلى تأليف عديد من الكتب التي تلفت الانتباه إلى خطورتها على الحياة الإنسانية.
في المنعطف نفسه، انتهى الروائي النوبلي العالمي ماريو فارغاس مؤخرًا من تأليف كتابه "حضارة الاستعراض" متسيّدًا مقدمة الكتب المهمومة بالسلوك الإنساني الحديث، التي تقود التنبيه إلى كثير من المخاوف على الحضارة الإنسانية وثقافات الشعوب من وسائل التواصل الاجتماعي، ووصل متأسفًا إلى أن الحضارة التي تعطي ثقافتها السائدة الأهمية الكبرى للتسلية وتشكيل المتعة وتجنّب كل ما يثير التفكير فيها، ستجعل الثقافة تتغيّر من مضمونها على مدى عقود قليلة وتنصهر انهيارًا إلى حيث لم تعد مرادفة للفكر والنقد وطرح الأسئلة الجوهرية لصناعة الحياة ومستقبلها!
بقي من اللافت في القراءة الثانوية لكتابه، أن ماريو "النوبلي" لم يتردد في التأكيد على أن مثل هذه الثقافة الاستعراضية "تعكس مسألة أخلاقية" تأتي في صميم الأسباب التي أدّت إلى انهيار الثقافة العليا، وتتناسق مع الانحطاط الثقافي؛ حيث غدا هناك خلط سائد في الأذهان ومعه إحساس متقولب بأن الثقافة لم تعد أكثر من "طريقة لطيفة لتمضية الوقت"؛ حيث يرى أن هذه المظاهر كلّها وغيرها التي تصب في المنحى نفسه، رغم ما تحتوي عليه من مخاطر حقيقية، ليست بحدّ ذاتها سوى "أعراض مرض أخطر" وأكثر تدميرًا للثقافة الحقيقية هو "تكريس ثقافة التسلية كهدف أعلى للحياة في مجتمعاتنا".
في الاختصار الأخير، كل ما يخشاه أرباب التربية والعلوم الاجتماعية والنفسية أننا لن نلقي بالًا، أو نلتفت لمثل هذه الإشارات الخطيرة قدر ما تستحق إلا بعد فوات الأوان كالعادة، أقلها الدفاع عن ضرورة احتفاظ مجتمعنا وأجياله بمختلف الأفكار التي تؤكّد القيم والقيمة الإنسانية دون تهديد من استمرار التقدم التكنولوجي والعلمي ووصوله إلى مستوياته الحالية في استعمالاتنا المجنونة والمسيطرة علينا، وعلى أنماط تفكيرنا وأجيالنا و"تربيتهم" كذلك.