كثيرة ومثيرة، تلك الرؤى والأشكال والصور التي يحملها البشر للنظر والنقد والحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث، بعضها عفوية وبسيطة وانطباعية، بينما بعضها الآخر معقدة وعميقة ومركبة، وهي تعتمد على ما يملك الإنسان من أدوات وعلوم ومعارف، وكذلك بما يحمل من مواهب وقدرات ونظرات.
وقد ذكرت في المقال السابق، بعض الأشكال والمدارس والمناهج التي يُشكّلها النقد باعتباره مسطرة تقويمية مهمة لقياس مسارات الفكر والمزاج والسلوك لدى الأفراد والمجتمعات والأمم، وذلك بهدف توجيه وتطوير وازدهار المحتوى بكل أشكاله وأحجامه ومستوياته. ولكن، كيف ننظر أو نقيس أو نحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث؟، أو بمعنى آخر: كيف نكوّن "نظرة نقدية" لكل ما نواجه من أفكار وآراء ومواقف في حياتنا؟.
وبشيء من الاختزال والاختصار، سأنتخب قائمة صغيرة تضم أهم ثلاثة أنماط ينظر/يحكم به الإنسان على الأشخاص والأشياء والأحداث، طبعاً بحسب رأيي وتجربتي ونظرتي في الحياة:
الأولى: وهي "النظرة الميكروسكوبية" التي تُضخم وتُكبر الأفكار والأشخاص والأحداث، بل وتصنع هالة بانورامية ضخمة لتفاصيل هي ليست كذلك، بل هي في الحقيقة/الطبيعة صغيرة جداً. هذه النظرة/الرؤية التكبيرية للأفكار والأشخاص والأشياء جعلتنا لا نعرف قيمة أو حجم أو حقيقة الكثير من ملامح وتفاصيل وقصص في حياتنا.
الثانية: وهي "النظرة التاريخية" والعودة الدائمة للأفكار والأحداث والقناعات التي عفا عليها الزمن، بل وتجاوزها بشكل كبير، إلا عند هؤلاء الذين يحملون ويتبنون ويؤمنون بهذه النظرة التي تعشق الأمس وتُمجّد الماضي بكل صفحاته وصوره وتراثه. هذه النظرة التاريخية التي مازالت تسكن الأمس، جعلتنا لا نرى جيداً يومنا الحاضر، بل وقد ألهتنا عن التفكير بغدنا الزاهر.
الثالثة: وهي "النظرة المؤامراتية" التي قد تُغيّبنا عن واقعنا الحقيقي ونظرتنا الموضوعية للأفكار والأشخاص والأشياء، وهي تُمثّل حالة متشككة تلجأ لهذه الطريقة في التفكير والتحليل والتفسير والتي تُعطل العقل وتُلغي المنطق وتحجب الرؤية. هذه النظرة/النظرية التي نفزع إليها بين الحين والآخر، قد لا يكون لها ثمة وجود إلا في مخيلتنا الضيقة التي تخاف من المواجهة وتُفضل نمطاً رابعاً يستحق أن يُضاف لهذه القائمة وهي "النظرة النعامية" والتي يُمارسها النعام للهروب من مواجهة الحقيقة بدفن رأسه في التراب.