إن محتوى رسائل التواصل الاجتماعي لا تعبر إلا عن آراء أصحابها؛ لكن مع غياب الوعي العام، والقدرة على الفهم والتحليل، يتقبلها الكثير من الأفراد على أنها أمور مسلمات، فتعم الفوضى المعرفية، وكل يلقي بما في مئزره على قارعة الطريق..
في يومنا هذا يكثر الجدل، ويكثر اللغط، وتتكون أفكار قد تكون زائفة، ويعتمل في العقل عمليات مرهقة، وخاصة مع ما استحدثته وسائل التواصل الاجتماعي من آراء فردية لا تعبر إلا عن آراء أصحابها!
وكانت النتائج لا تأتي سوى بالغث وتسطيح الثمين، وفرض أقوال وآراء لا تعتمد على المنطق أو قل لا يستخدم المتلقي فيها على مهاراته الذهنية والتي أسموها في علم التلقي بالذهنية الناقدة.
وإذا ما تعرضنا لمصطلح الناقد فهو لا يعني الانتقاد على الإطلاق، والفرق بينهما كبير، فالنقد هو تحليل وتفسير الرسالة تحليلا موضوعيا بهدف توصيل الرسالة؛ أما الانتقاد هو تصيد المثالب وإبداء اللوم أو التشهير وهي رسالة لا تخص إلا رأي صاحبها، ولذا وفي ضوء ما نشهده في الآونة الأخيرة من كوارث من استخدام لهذه الوسائل للتواصل الاجتماعي، أنها تخلق مناخا مستفحلا لدى بعض أفراد القاعدة العامة، من عدم الثقة فيما يقال بالرغم من أن صاحب الرسالة قد يكون ذا خبرة ومعرفة وعلم لديهم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى نجد البعض الآخر يعمل على هذه الفوضى -إن صح التعبير- إلى ترهل الاستقبال رغم غزارة المرسلات، وتنوع الرسائل مع تعداد أوجه الاختلاف.
ويرجع هذا لأمرين مهمين، أولهما هو جرأة المرسل على القول إن كان من أشخاص غير ممتهنين وذي خبرة ومكانة علمية ومعرفية، وهذه الجرأة تصدر من أن المرسل غير ذي مكانة علمية أو اجتماعية تسجل له تاريخ كل ما يصدر منه، وبالتالي ليس لديه ما يخسره مجرد بث كلام هو غير مسؤول عنه، ولا يعرف مدى ضرره من نفعه، اللهم ليكون محتوى قد يدر عليه عددا من المتابعين، وبالتالي يتقاضى أموالا طائلة لا نعرف مصدرها، وهنا يصبح المرسل أجيرا يؤجر منصته لمن يدفع الثمن كـ(غرفة للإيجار).
الأمر الثاني هو ما دونته قواعد التفكيكية- وهي مدرسة فلسفية أكبر من كونها أدبية، فالفلسفة حينما تنطلق مدارسها تتسرب إلى كل معطيات الحياة دون هوادة، بل تغير في سلوك الأفراد أنفسهم، ذلك أن كل ما يطرح من فكر فلسفي قديماً أو حديثاً ليس كما يعتقده الكثيرون من علماء (الإنتليجيستيا) على أنه لا يخرج من كونه نصاً فلسفياً يخص مداراته النصية والإبداعية، بل إن كل ما يطرح على المئرز تتلقفه العقول من دون قصد أو وعي، أو قل اعتناء، مما يتسرب عبر فتحات الهواء إلى مكامن الذهن والفكر والوجدان، ثم يتحرك ديناميكياً في الوجدان ليغير كيمياء المخ والتفكير فيتم تشكيل الدماغ بما يؤثر سلباً أو إيجاباً على السلوك البشري بشكل عام، وهنا يحدث ما نسميه بـ(تشكيل الوعي العام) بعد مروره بالوعي الممكن ثم الوعي المتاح! ذلك أنه بالفكر الفلسفي تتشكل أذهان الأفراد بين (الوعي الممكن والوعي المتاح والوعي القائم والوعي العام؛ كل ذلك عبر تلك النوافذ -وأهمها الإعلام والجامعات والمدارس– إلى تشكيل البنية الاجتماعية والتي قد تتأثر بهذه المدارات دون وعي بمقتضاها السلوكي على الأفراد!
ومن أهم قواعد التفكيكية هو كسر الكاريزما بداية من رب الأسرة للمديرين والمسؤولين انتهاء بالمفكرين والعلماء، حينما يصبح الكل على حصيرة واحدة، الكل يلقي ما يراه صحيحا أم خطأ أمام العامة، بل والتقليل من شأن أصحاب الفكر والرأي والتشكيك في رسائلهم المعرفية، ومن هنا تأتي الفوضى المعرفية والسلوكية فيما نراه اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي رغبة في استدرار الربح ليس إلا وهو المطلوب من أصحاب تلك المؤسسات الممولِة.
ومن هنا كان يجب على كل صاحب رسالة مرسلة إلى القاعدة العامة -سواء كان من النخبة أو من العامة- أن يستخدم ما يسمى (بمهارات الإقناع) وطرح محتوى رسالته في ضوء المنطق (بما أن، وإذا) لكي يتم تحليل محتوى رسالته تحليلا ذهنيا ونقديا في كل ذهنية متلقيه، ويسوق البرهان والدليل القاطع في معرفة صادقة وموضوعية، فالفضاء الإعلامي لم يعد ينتقي، من يقول ماذا ولمن ومن يتحدث؟ وعليك أن تستقبل ولكن بوعي لما يقدم وما هو المطلوب من ورائه؟
هذه المهارة في الإقناع هي من تحد من فوضى المعرفة والوعي، وتجعل المتلقي يفكر ويتفكر أيضا في كل محتوى يقابله.
هذه المهارة منها الفطرية، ولكن أغلبها يرتكز على العلم والمعرفة، فقصورها يؤدي في نهاية المطاف إلى عدم تقبل الآخرين لغياب المنطق وضعف الحجة وعدم القدرة على فن عمليات الاتصال، وهذه قدرة لا يتقنها سوى المتخصصين في هذا المجال الفضفاض، لكن مبدأ كسر الكاريزما يقلل من آراء وأقوال هؤلاء، بل والتشكيك فيما يطرحون، إن لم يكن لديهم تلك المهارة والحجة الواضحة القوية على ما يقدمون، وهو ما لا نراه فيما يطرح على هذه الوسائل والتي لا تستند على حجة أو معرفة!
إن محتوى رسائل التواصل الاجتماعي لا تعبر إلا عن آراء أصحابها؛ لكن مع غياب الوعي العام، والقدرة على الفهم والتحليل، يتقبلها الكثير من الأفراد على أنها أمور مسلمات، فتعم الفوضى المعرفية، وكل يلقي بما في مئزره على قارعة الطريق، وخاصة مع التيك توك وتويتر والفيس بوك وغيره خاصة مع عدم الرغبة فيما هو فني أو أدبي أو أي محتوى هادف لصياغة الرأي العالم.
لقد أخبرني أحد الزملاء بأنه فتح قناة على التيك توك، وقدم لمدة تزيد على شهرين محتوى هادفا ومفيدا، إلا أنه وجد المتابعين لغيره -ممن يقدمون ترهات وعبارات ومحتوى لا قيمة له- يفوق عدد متابعيه بمراحل، فشد العزم على أن يقدم مجرد كلام في اللا شئ فتضاعف عدد المتابعين والزوار وفتح له الطريق نحو كسب المتابعين ومنه لاستلام النقود من هذه المنصة.
وهنا نستطع القول إن انصراف الرواد والمتابعين وعدد القراء يعود إلى عدم القدرة على التمييز، بين ما هو مفيد ومطلوب وبين ما هو مضيعة للوقت والتسلية وبين شطب الفكر والأدب والفن من أجنداتهم اليومية، وهذا هو ما فعلته الفوضى المعرفية وما يسمى بكسر الكاريزما!