تلتزم المملكة في إجراءاتها القضائية بالمبادئ المتفق عليها عالمياً، وأهمها، مبدأ الفصل بين السلطات بموجب المادة 44 من النظام الأساسي للحكم، ومبدأ استقلال القضاء استنادا للمادة 46 من ذات النظام، ومعها المادة الأولى من نظام القضاء نفسه، وتعمل بمبدأ تعدد درجات التقاضي، فهناك محاكم ابتدائية واستئناف ومحكمة عليا..
أقيمت في بداية ديسمبر 2024، فعاليات منتدى الرياض الاجتماعي الخامس، وقد كان موضوعه تعزير الوعي القانوني في المجتمع السعودي، ومن أبرز توصياته، تبسيط اللغة المستخدمة في الأنظمة القضائية، ومعها إدخال الثقافة القانونية في المناهج الدراسية، وكلاهما من المطالب المهمة والضرورية، ويصبح الأمر أكثر إلحاحاً، بالنظر إلى التحول من القضاء الشخصي، الذي يعتمد على اجتهاد القاضي ويختلف باختلافه، إلى القضاء المؤسسي، المحكوم بأنظمة محددة يحكم بها كل القضاة، وهذه المسألة اهتم بها الملك عبدالعزيز منذ تأسيس الدولة، بطلبه من القاضي أحمد بن علي القاري، كبير قضاة وعلماء الحجاز، كتابة الفقة الإسلامي على شكل قانون، أو ما يعرف في هذه الأيام بالتقنين، وبما يضمن توحيد الأحكام في المسألة الواحدة، وبالفعل أصدر القاري مؤلفاً بذلك، ولكنه لم يدخل حيز التنفيذ، لأمور خارجة عن إرادة القضاء، ورغم التأخر النسبي في تقنين الأحكام بالمملكة، إلا أنه جاء في مصلحتها، وأسهم في خروجها الناضج والمدروس.
لا بد من الإشارة إلى أن القضاء في العالم يأتي على شكلين، الأول قضاء موحد أو (أنغلوسكسوني)، يقوم فيه جهاز قضائي واحد بمباشرة كل القضايا، ولا يغير في ذلك أن الدولة طرف فيها أو لا، والسابق موجود في أميركا وبريطانيا والإمارات والمغرب، والثاني يسمونه القضاء المزدوج أو (اللاتيني)، وهو يفرق بين القضايا ضد الدولة والقضايا بين الناس، على أساس التباينات الواضحة بينهما، فلا يمكن التنفيذ على الدولة كما الشخص، لاختلاف الإجراءات في الخصومات بين الأشخاص، وعند مخاصمة أجهزة الدولة الإدارية ووزاراتها، ولا يعقل إيقاف خدمات وزارة، أو منع وزير من السفر في قضايا حقوقية، أو الحكم عليهما بالنكول أو أداء اليمين، والمملكة وفرنسا ومصر تأخذ بهذا النموذج، ويوجد في فرنسا ومصر مجلس للدولة مختص بذلك، بجانب ديوان المظالم أو (المحكمة العامة) في المملكة، وأعتقد أن القضاء المزدوج أضمن لعدالة التقاضي.
وزارة العدل السعودية تم تأسيسها عام 1970، والمملكة تلتزم في إجراءاتها القضائية بالمبادئ المتفق عليها عالمياً، وأهمها، مبدأ الفصل بين السلطات بموجب المادة 44 من النظام الأساسي للحكم، ومبدأ استقلال القضاء استنادا للمادة 46 من ذات النظام، ومعها المادة الأولى من نظام القضاء نفسه، وتعمل بمبدأ تعدد درجات التقاضي، فهناك محاكم ابتدائية واستئناف ومحكمة عليا، وكلها استحدثت في 2007، ويكملها مبدأ علانية الجلسات، الذي نصت عليه المادة 64 من نظام المرافعات الشرعية، ما لم يطلب الخصوم سريتها، لأسباب تتعلق بالأسرة أو حفظ النظام أو الآداب العامة.
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، قال في مناسبة سابقة، "إن من حق من له مظلمة ضده مقاضاته"، وما سبق يظهر أنه ليس محصنا من رفع قضية حقوقية عليه، وبشرط ألا تكون لها علاقة بصفته كملك، ولا بالأمور السيادية والسياسية، وقبل هذا، هناك قصة معروفة للملك عبدالعزيز مع الشيخ سعد بن عتيق، وقد حكم عليه في قضية مشهورة، وديوان المظالم أو (المحكمة العامة) تصدر عنها أحكام تلغي قرارات إدارية لوزارات سيادية، كوزارات الدفاع والحرس الوطني والداخلية وغيرها.
وزارة العدل منذ إنشائها وحتى عام 2024، تعاقب عليها ستة وزراء آخرهم الشيخ الدكتور وليد بن محمد الصمعاني، المولود في 1978، وكان عمره عند توزيره 37 عاماً، وهو صاحب القفزات التطويرية الهائلة في الوزارة، وفي فترته صدرت كل الأنظمة العدلية الجديدة وقنن القضاء، وحصلت معه المملكة طبقاً لارقام 2021، على مراكز عالمية متقدمة في تقرير التنافسية الدولية، شملت المركز 16 في مؤشر الاستقلال القضائي، والمركز 17 في مؤشر كفاءة الإطار القانوني لتسوية النزاعات، والمركز 18 في مؤشر كفاءة الإطار القانوني للطعن في اللوائح، وما بين عامي 2017 و2023 ارتفعت نسبة الخدمات الإلكترونية لوزارة العدل من 15 % إلى 90 %، وتمت إقامة المحكمة النموذجية ومركزي تدقيق وتهيئة الدعاوى، لتعزيز آليات القضاء المؤسسي.
مجهودات وزارة العدل مشكورة ومقدرة ومتكاملة، لولا أن مشكلات بعض القضاة ما زالت حاضرة، ومن الأمثلة، تأجيل قضايا فسخ العقود التي يؤثر الزمن عليها من الناحية المالية، وعدم تكليف غيرهم بها، عندما يكون القضاة غير موجودين أو مجازين أو لديهم تعارض في القضايا، بالإضافة إلى أن بعض القضاة لا يدرسون القضايا وتفاصيلها والأدلة المقدمة فيها ومرفقاتها، ويكتفون بما يدونه كاتب الجلسة وكلام الخصوم أو وكلاؤهم، وإذا تم التنبيه عليهم بعد الدخول في موضوعها، وفق الضبط الموثق في جلساتها، يحكمون بصرف النظر عنها، أو يصرون على عدم الاختصاص في قضايا تخصهم، وبعض الخصوم يقدم وثائق مفبركة، أو يتلاعب بالنظام بصورة مكشوفة وثابتة بالدليل، ولا يحكم القاضي بمحاسبته أو يحيله للأجهزة المختصة لمساءلته، وأتصور أن الأمور السابقة تحتاج لمعالجة مستعجلة، يتعاون فيها التفتيش القضائي في وزارة العدل مع نزاهة، وبما يكفل تصحيح الأخطاء المقصودة أو العفوية، ويمنع تكرارها مستقبلاً.