كل هذه المشكلات التي طرأت على الشخصية العربية نتاج سرعة هذا التطور -الذي لا يزيد على مئة عام وهو بحساب بناء الحضارات لمحة بصر- لم تخلق شخصية متوازنة بين تلامس الأمس واليوم، فالشخصية لا تزال هي تلك القبيلة المتحجرة والمبنية على مفاهيم معينة، وبين ثوب حضاري متزيٍّ بهذا اللون وتلك الصبغة، وبين الداخل والخارج يكمن غليان لم ينضج بعد..

لم يكن الرجل والمرأة على حافتي السطر الواحد سوى في يومنا هذا، ليس في المملكة العربية السعودية فحسب وإنما في كل بلادنا العربية. فلم نعهد في الماضي القريب تلك الخلافات والانشقاقات إلا في يومنا هذا، مما أنتج فكرة ما يسمى الطلاق الصامت وهو انعزال الزوج عن زوجته، وهذا ليس من تعاليم ديننا الحنيف، أو الطلاق للضرر واستحالة العشرة، وكثير من الأسباب التي لا تعمل على شقاء الأسرة الواحدة خاصة الأطفال الذين لا نعمل لهم ألف حساب فحسب، وإنما تدهور البنية الاجتماعية للوطن، الذي يرتكز في لبنته الأولى على البنية الأساسية السليمة (الأسرة).

وهذا الأمر له كثير من العوامل التي لم يكن المجتمع برمته جاهزاً لها، نتاج سرعة التطورات ليست المحلية والإقليمية فحسب، وإنما في العالم بأسره ونحن جزء لا يتجزأ من هذا العالم.

هذه القفزات الفكرية والفلسفية تحمل الكثير بين جزيئاتها الدقيقة متغيراً باهظ الكلفة، خاصة في استقبالها بلا وعي لما يتناسب والشخصية العربية في تكوينها والتي مازالت كامنة تحت الرداء.

فالشخصية العربية تطورت تطوراً سريعاً بين ماضٍ قريب للغاية، وحاضر يضج بالفكر والأفكار التي يتحتم علينا التماشي معها قسرًا وبلا هوادة.

فالشخصية العربية كانت في تكوينها تمقت اللوم وتعتبره عيبًا ثقيلًا لا يتحمله العربي، ولذا كان العربي نساؤه ورجاله يحسبون ألف حساب لما قد يعرضهم للّوم، فهو في ذاته جانب من جوانب الإقصاء الضمني بين أفراد القبيلة؛ ومن هنا كان الرجل أو المرأة يعملون في إطار السلوك الجماعي، فالأسرة جزء من البنية الاجتماعية، والكل مكشوف للآخر، عليه أن يحرص على صورته أو تصورها في إطار هذا الكيان، ومن هنا يكون الزوجان الحميمان يخاف كل منها على الآخر ويحسب حسابه خوفاً من لائمة تطال أياً منهما، وبالتالي يكون التقارب والسكن والحب يتجدد مع تجدد النية الخالصة لكل منهما هذا أولَ.

الأمر الثاني هو ترييف المدن والهجرة من الريف إلى المدينة طلباً للعلم والرزق والعمل، وترييف المدن هو من أخطر الأمور على البعد الاجتماعي بشكل عام، فأصبح الكل لا يعرف البعض وهذا جزء من الانعزالية التامة.

إلا أن هذا التطور في الذهنية العربية خاصة المرأة عمل على تمكينها من المشاركة في بناء المجتمع، بينما كان دورها سابقاً في المجتمع القبلي قد اقتصر على المشاركة في رعاية الأسرة والاهتمام بمقتضياتها، ثم جاءت نهضتها ووصولها إلى الدرجات العليا من هذا التعليم والوعي ليعطي لها مكانة أعلى، تحررًا من بعض القيود القبلية، وأتاح لها العديد من الحريات وحصّنها بإطار قانوني وأخلاقي، يتيح لها المساهمة الإيجابية في مسايرة ركب الحضارة والإنسانية والتطور، وهذا التوسع في التعليم أعاد للمرأة العربية دورها الإيجابي خارج حدود المنزل والأسرة.

كما أن هذا التعليم والوعي قد لعب دوراً مهماً في توعية المرأة، بوضعها داخل المجتمع والتأكيد على أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه، في تنميته وتطويره، ولعب دوراً أساسياً في تشجيع تيار الهجرة من الريف إلى المدن قديمها وحديثها سعياً وراء هذا العلم والتحقق ومن هنا أصبحت ذات مردود اقتصادي ذي حدين.

فأصبحت الملامح المهمة التي تؤثر في الإطار الحضاري والاجتماعي للمجتمع العربي هو عمل المرأة خارج المنزل، حيث نزاع مستمر حول مقدرات المرأة وهو ما يسمى بالذمة المنفصلة والتي يقرها الإسلام، وبين متطلبات المعيشة التي يتطلع الرجل أن جزءاً من مقدراتها لا بد أن يشارك في أعباء المعيشة، وهذا ما يسبب شرخاً قسرياً في احتفاظ المرأة بمقدراتها المالية وبين حرصها على مشاركتها في العمل وبين مطالب رجل يريد أن تدفع المرأة أتاوة نظير خروجها من المنزل للعمل، وهذا عيب مقيت في العرف الاجتماعي أن يعتمد الرجل على مقدرات النساء، وأعتقد أن ذلك معروف.

والأمر المهم في هذا الصدد هو ما تسببه وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، وهي أول مسمار في نعش الاستقرار الأسري إن صح التعبير، فهي عامل غريب، يظنون أنهم جميعهم يتحدثون من وراء جدر؛ وهذا غير حقيقي، فالكل مكشوف أمام الكل، ولو بعد حين ولكنه في ضوء انتفاء مفهوم العيب وعدم الخوف من اللوم كما أسلفنا لم يعد أحد يعير ذلك أي اهتمام.

الأمر الأخير هو عدم وجود دور الأهل في حياة الأسرة الصغيرة، فالباب يقفل في وجه العائلات من أول يوم في الزواج، وهذه من إحداثيات هذا التطور، ذلك أنه كان في الماضي القريب يحسب للأسر والنسب والمصاهرة ألف حساب، وبالتالي يرجع أي منهما إلى رأس العائلة حين يحدث أي خلاف، ودورهم في رأب الصدع كبير، فكلمتهم مسموعة وتحترم، ويحتل الأصدقاء مكان العائلات فتتفاقم المشكلات!

فالمصاهرة في العرف القبلي هي تحالف بين قبائل في السلم وفي الحرب، فكيف إذا كان بين الأنساب والأرحام، ولكن تضاؤل ذلك جعل الحبل على الغارب لكلا الزوجين ليفعل كل منهما ما يريد بلا كبير وبلا رأس، يكون له القامة والقيمة خارج إطار الأسرة الصغيرة، إنما هو إطار حامٍ وحارس ومتسيّد لكل الأطر الأسرية لتستقر.

كل هذه المشكلات التي طرأت على الشخصية العربية نتاج سرعة هذا التطور -الذي لا يزيد على مئة عام وهو بحساب بناء الحضارات لمحة بصر- لم تخلق شخصية متوازنة بين تلامس الأمس واليوم، فالشخصية لا تزال هي تلك القبيلة المتحجرة والمبنية على مفاهيم معينة، وبين ثوب حضاري متزيٍّ بهذا اللون وتلك الصبغة، وبين الداخل والخارج يكمن غليان لم ينضج بعد.

ولهذا يجب على أعضاء الأسرة الواحدة النظر فيما لديها من أعراف لم يتم التخلص منها بعد، والعمل على توازنها مع المعطيات الحضارية الوافدة، ذلك لعمل هجين من المعطيات التي تكوّن جيلاً جديداً بين ماضٍ وحاضر لا يفتأ أن يكون الأمس هو اليوم في تأرجح يقضّ مضجع كل أسرة.