عندما نتحدث عن الهوية السعودية تبرز الأشكال التاريخية في الملبس والعمران وحتى في الأكلات والحرف الشعبية، ولا أحد يحدد الخط الفاصل بين الماضي والحاضر، فهل نحن فعلًا ننتمي لتلك الأشكال والممارسات التي لا نعرف حتى كيف تُصنع، أو أن هذا الارتباط هو نتيجة واضحة لعدم قدرتنا على تحديد ملامح هويتنا المعاصرة؟
في البداية يجب أن أذكر أن المشكلة الأساسية التي تواجه "الهوية" كمفهوم هو ارتباطها الدائم بما يُرى، أي أن كل "هوية" تشير إلى المظهر الذي يبدو عليه الشيء، وبالتالي فإن قيمة المكونات والأشكال المادية البصرية كبيرة جدا في تحديد وتعريف مفهوم الهوية سواء للأشخاص أو المجتمعات والمدن وغيرها. خلال العقود الأخيرة بذل كثير من الباحثين جهودا كبيرة لتوسيع دائرة "الهوية" وجعلها مفهوما أكثر شمولية يحتوي الظاهر (الشكل المادي) والكامن (المعنى المختزن في الأشكال المادية والثقافة المجتمعية)، ورغم أن هذه الجهود لم تستطع أن تغير كثيرا من "سطوة" الأشكال البصرية على مفهوم الهوية، إلا أنها أوجدت مساحة، نعتقد أنها مهمة، من الجدل بين المحسوس وغير المحسوس عند محاولتنا لفهم الهوية والبحث عنها.
إشكالية ارتباط الهوية بالأشكال المنظورة تكمن أولا في الرغبة في النقل السريع للمعانى التي تُعرّف بالشيء عبر أشكال رمزية معروفة في السابق من قبل مجموعة كبيرة من الناس، هذا النقل ليس بالضرورة أن يُعرّف بحقيقة الشيء بل قد يشير إلى ارتباط هذه العناصر به في حقبة تاريخية لم تعد موجودة اليوم، وبالتالي فإن الهوية التي تنقلها هذه العناصر غير حقيقية ومنفصلة عن الواقع. ثانيا أن الاعتماد على فهم المعاني الكامنة في المجتمع يتطلب وجود دلائل محسوسة تدل عليها، وبالتالي فإنه يصعب فهم الهوية دون أن يكون هناك عناصر مادية بصرية تشير لها، وهذا يزيد من "التشويش" الذي يحيط بمفهوم الهوية ويفتحه على كافة التفسيرات التي تجعل من تحديد تعريف محدد له أمر في غاية الصعوبة.
كنت أود أن أعنون هذا المقال بـ"دورة الحياة للأشكال المعمارية"، وذلك لأن كل ما أسمعه حول "الهوية المعمارية" يدور حول "الشكل"، فعندما نتحدث عن الهوية السعودية تبرز الأشكال التاريخية في الملبس والعمران وحتى في الأكلات والحرف الشعبية، ولا أحد يحدد الخط الفاصل بين الماضي والحاضر، فهل نحن فعلا ننتمي لتلك الأشكال والممارسات التي لا نعرف حتى كيف تُصنع، أو أن هذا الارتباط هو نتيجة واضحة لعدم قدرتنا على تحديد ملامح هويتنا المعاصرة؟ تظهر المشكلة بوضوح في عجزنا الراهن عن ابتكار أشكال بديلة يمكن أن تنقل الهوية دون عناء لذلك يتم اللجوء إلى الأشكال التاريخية التي عبّرت عن الهوية في حقبة تاريخية سابقة. هذه الإشكالية لم تتم معالجتها ومحاولة تجسيرها ولم يتم الدفع بتجارب عملية لفهمها بل تم اللجوء إلى الحلول السهلة من خلال الارتماء في أحضان التاريخ والنقل منه لصنع هوية غير حقيقية من خلال إعطاء تبريرات أنها هوية محمولة على أكتاف أشكال بصرية تنتمي لماضينا.
ما لفت انتباهي هو أن الأشكال المادية لها دورة حياة، أي أن هناك أشكالا تاريخية استطاعت المقاومة والبقاء على قيد الحياة والاستمرار بل والاندماج مع الأشكال المعاصرة، وهذا يعني أن المسألة ليست مرتبطة بالتحسس من القديم أو رفض التاريخ، ولا القطيعة الكاملة مع التراث، بل بقدرة بعض الأشكال (تاريخية ومعاصرة) على المقاومة والاستمرار من خلال الإمكانات الكامنة داخل مكونها الذي يجعل من بنيتها قادرة على التجدد. القدرة على صناعة حياة جديدة التي تملكها بعض الأشكال والمكونات مرتبطة بأمرين، الأول: هو قدرتها التشكيلية المرنة التي تجعل منها أشكالا غير مكتملة ويتم إكمالها حسب الموضوع والمساحة التي توجد فيها، وهذا لا يعني أنها مكونات بلا شخصية، بل على العكس تماما هي مكونات قوية وواضحة لكنها تكتمل ويصبح لها معنى بوجودها مع غيرها من المكونات.
الأمر الثاني: هو تقبل الناس لها مهما اختلف الموضوع ومهما تغير الذوق العام مع تطور الأجيال. يبدو أن هذه الأشكال النادرة التي تبدو بسيطة تملك بنية داخلية قوية نضجت من خلال التجارب الطويلة التي مكنتها من العودة للحياة كل مرة بشخصية جديدة لم تفقد في يوم بريق "الأصل". من خلال هذا التصور قد تقودنا فكرة دورة الحياة للأشكل والمكونات المادية إلى فهم أوضح لـ "الهوية المعاصرة" التي لا تنفك عن الرغبة في الارتماء في أحضان التاريخ.
طالبة الدكتوراة حنان القحطاني (قسم العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل) حاولت أن تقدم مثالا لدورة الحياة لشكل "المثلث"، لكونه تكوينا بصريا مهما يعرّف الهوية المعمارية النجدية وربما السعودية، فلماذا المثلث على وجه الخصوص وليس شكلا آخر؟ التتبع بدأ من الحضارات القديمة، ووجدت أن هذا العنصر كان محوريا من الناحية الرمزية البصرية للدلالة على هويات تلك الحضارات، ولم يتوقف عن التجديد والظهور بأشكال متعددة في حقب تاريخية مختلفة. كما أنه العنصر الأبرز في العمارة الصحراوية على مستوى العالم، ويبدو أن بساطة التكوين وسهولة التنفيذ جعلته عنصرا ينطبق عليه عبارة "السهل الممتنع" لكنه تحول من خلال وجوده مع عناصر أخرى إلى مكون تشكيلي رمزي يشير كل مرة إلى منطقة مختلفة، كما هو الحال في العمارة النجدية. الغريب أن المثلث في عمارة الرياض، القرن العشرين، غاب عن الوجود في الفترة بين عامي 1950 و1975 تقريبا، وهذا الغياب كان يعني انتهاء دورة الحياة للمثلث التاريخي وبداية حياة جديدة للمثلث المعاصر في العمارة النجدية. العودة القوية لهذا العنصر البصري في عمارة الرياض في الخمسة عقود الأخيرة يشير إلى قدرة المثلث على الحياة والاندماج في التكوينات المعاصرة بل وقدرته على تجاوز إشكالية "النسخ واللصق" والظهور بتكوينات جديدة تذكرنا بالأصل لكنها لا تجعلنا مأسورين داخل التاريخ.