مبيعات الأدوية العالية في المملكة ربما أعطت مؤشراً جيداً من الناحية الاقتصادية، ولكنها تشير في جزء منها إلى هدر أكبر مقارنة بدول المنطقة، وهذه القضية تستدعى حلولاً مرحلية من وزارتي الصحة والمالية وهيئة الغذاء والدواء وشركائهم، وبحيث يكون صرف الدواء بقدر الاحتياج..

في أواخر العام 2024، بدأت حملة توعوية في المملكة، واستمرت لأسابيع، وقد تناولت موضوعي الاستهلاك والتكديس المفرط للدواء، وذلك من قبل الأشخاص والمنشآت الصحية معاً، وكان اسمها: دواء بلا هدر، وأستطيع القول بعد مراجعة مقاطعها التوعوية القصيرة والنادرة، إنها لم توفق في صياغة رسالتها، ولا في المحتوى الذي قدمته، فقد اعتمدت على تبسيط لا يحترم عقول الناس، وهذه ليست الحملة الأولى، فلا يخلو عام من حملة محلية عن الهدر الدوائي، ولكنها في الغالب تأتي متواضعة، ولا تصل إلى شرائح واسعة في المجتمع السعودي، أو حتى للجاليات العربية والأجنبية، وأتصور أن معظم من يقرأ وبالأخص السعوديين، لم يسمعوا بهذا النوع من الحملات، رغم أنهم يمثلون جمهورها المستهدف، ومعهم المقيمين العرب بطبيعة الحال، والسبب اعتمادها على اللغة العربية مع وجود مقيمين لا يتحدثونها، وهو ما يمثل سلبية إضافية تحسب عليها.

لا توجد أرقام دقيقة تخص هدر الدواء في المملكة، وآخر إحصائية موثوقة، صدرت عن مركز دراسات الدواء السعودي في 2007، أو قبل 17 عاماً، وقدرته بنسبة 27 %، واللافت أن تقديرات 2019، أشارت إلى أن قيمة الأدوية المهدرة تصل لمليار ريال، أو ما يعادل 375 مليون دولار، وتمثل ما نسبته 18 % من إجمالي الأدوية المصروفة، وأعتقد أن هذه النسبة متحفظة جداً، وربما كانت إحداهما أو كلتاهما خطأ، والإشكالية عالمية وليست محلية، وعلى سبيل المثال، بريطانيا تخسر بسببها ثلاث مئة مليون جنيه استرليني في كل عام، والتكلفة السابقة تساوي ما يصرف على 100 ألف جراحة عظام، وبالذات جراحات استبدال الركبة والحوض، ومعها 18 ألف علاج لسرطان الثدي، وأول من يدفع فاتورة الهدر هم أصحاب الحالات الحرجة التي تحتاج إلى الدواء ولا تجده، لأن آخرين قاموا بصرفه المتكرر لتخزينه، أو لعلاج أمراض موسمية مقيدة بزمن معين وكمية بسيطة.

الدولة قامت بمجهودات كبيرة، وتحديدا في مجال تصنيع الأدوية على المستوى المحلي، وقد تمكنت من إنتاج أكثر من 400 دواء، وتعمل في العام الجاري 2025، على تسجيل قرابة 38 دواء، والمستهدف زيادة مساهمة القطاع الصحي في الناتج المحلي الإجمالي، من 199 مليار ريال، أو حوالي 53 مليار دولار في 2023، إلى 318 مليار ريال، أو 84 مليار و800 مليون دولار في 2030، وعدد مصانع الأدوية الحالية، يقدر بنحو 65 مصنعاً، وباستثمارات قيمتها سبعة مليارات ريال، أو مليار 867 مليون دولار، والمحتوى المحلي لمبيعات الأدوية بالسوق السعودي، ارتفع من 25 % في 2018 إلى 35 % في أواخر 2024، قياساً لإجمالي مبيعات السوق، ما يعني أن المستورد ما زال مسيطراً.

صناعة الأدوية السعودية تسيطر عليها شركتان أساسيتان هما، شركة غلاسكو سميث كلاين، وشركة سانوفي، وتدخل في القائمة شركات وطنية، من نوع الشركة السعودية للصناعات الدوائية، وشركة تبوك لصناعة الأدوية، وجمجوم فارما، والشركة السعودية اليابانية للادوية (سجا)، والمملكة تعتبر أكبر سوق للدواء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومبيعات الأدوية فيها، استنادا لأرقام فيتش سليوشنز، ارتفعت ما بين عامي 2020 و2025، من 62 مليار و500 مليون دولار، إلى 79 مليار و400 مليون دولار، والرقم الأخير يدخل في دائرة التوقعات بحدها الأدنى، وبزيادة قدرها 17 مليار ومئة مليون دولار، في خمسة أعوام لا أكثر.

غالبية الأدوية السابقة، يتم استيرادها من سويسرا وألمانيا وفرنسا وأميركا وبريطانيا، ونسبتها في السوق تصل لـ65 %، وكتابة المادة الفعالة للدواء في وصفات الأدوية، يعمل لمصلحة المنتج الدوائي الأوروبي والأميركي، على حساب الدواء السعودي والعربي والآسيوي، لأن تأثير الماركات الغربية وسطوتها يمتد لعالم الأدوية، التي يتم صرفها من الصيدليات التجارية أو المجتمعية، ولا توفرها المستشفيات الحكومية في الغالب، والثانية فيها لجان من الأطباء والصيادلة، تعمل على إقرار الأدوية المطلوبة، حسب الميزانية المقررة، ووفق معدلات استهلاكها وصرفها من قبل مراجعيها.

مبيعات الأدوية العالية في المملكة، ربما أعطت مؤشرا جيدا من الناحية الاقتصادية، ولكنها تشير في جزء منها إلى هدر أكبر مقارنة بدول المنطقة، وهذه القضية تستدعى حلولا مرحلية من وزارتي الصحة والمالية وهيئة الغذاء والدواء وشركائهم، وبحيث يكون صرف الدواء بقدر الاحتياج، بجانب حساب الكمية المصروفة بالأيام المحددة لاستعمالها، كما هو الحال في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، والربط بين الأطباء في برنامج وصفتي ونظرائهم في الكيانات الطبية التقليدية، والتعجيل بتفعيل الملف الطبي الموحد ومشاركته بين الأطباء والصيادلة، وفق شروط وضوابط، وبما يضمن عدم تكرار صرف ذات الدواء بشكل متزامن لنفس المريض، وإقرار آليات للتبرع بالأدوية محل الهدر، وخصوصا الأقراص التي تمثل ما نسبته 70 % من الأدوية المهدرة، لأنها لا تتأثر بدرجات الحرارة المرتفعة، وتاريخ صلاحيتها أطول، وشركة (نابكو) قامت بوضع منصة (شارك) في موقعها الإلكتروني، لمشاركة الأدوية الفائضة بين المنشآت الطبية والتبرع بها، وكلاهما يخضع لمتابعة حكومية.