رغم الإيجابيات التي يُقدمها الذكاء الاصطناعي للبشرية اليوم عمومًا، إلا أن الاعتماد المفرط عليه يثير مخاوف متعددة، وهو ما أوضحته إحدى الدراسات الأوروبية الحديثة، التي كشفت أن نحو 45 % من الجمهور يشعرون بعدم الارتباط العاطفي بالمحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي، ويفضلون النصوص المكتوبة بأيدٍ بشرية..
في عالم يشهد تغيرات متسارعة، أصبح الذكاء الاصطناعي أحد الأعمدة التي ترتكز عليها صناعة المحتوى، كوننا في عصر يزخر بالتطورات التكنولوجية، وأصبحت هذه الخاصية واقعاً لا يمكن تجاهله، خاصة مع تسارع استخدامها في تحليل البيانات وصياغة النصوص، لكن هناك العديد من الأسئلة التي من المهم طرحها طاولة "الملأ المهني"، وهي: كيف يمكن لهذه التقنية أن تكون رافداً للإبداع البشري، لا بديلاً عنه؟ وما التجارب الواقعية الداعمة لذلك؟
لا شك أن الذكاء الاصطناعي يقدم حلولاً مذهلة، ويمكن لنا هنا الاستئناس بالإحصاءات الدولية التي تُشير إلى أن أكثر من 60% من المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم باتت تعتمد على هذه التقنية في صياغة محتوى مخصص لجمهورها. كما رأينا تجارب عملية في هذا الاتجاه، كاستخدام وكالة الأنباء البريطانية (Press Association) لتقنية “RADAR” في إنتاج نحو 30 ألف قصة شهرياً، تُبنى على بيانات من مصادر حكومية ومحلية. إلا أن المفارقة تكمن في أن هذه القصص، رغم دقتها الإحصائية، مازالت بحاجة إلى تحرير بشري لتناسب الجمهور المستهدف، مما يعكس حدود الذكاء الاصطناعي في تقديم محتوى يحمل طابعاً إنسانياً، بمعنى، أن هذا الكم الهائل من الإنتاج لا يعوض غياب عنصر "البصمة البشرية" التي تُضفي العمق والمعنى على النصوص.
ومن التجارب الملهمة التي يمكن سردها، تجربة صحيفة “واشنطن بوست” مع أداة "Heliograf”، حيث تم استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة تقارير إخبارية أولية، بينما بقيت التحليلات والآراء من اختصاص المحررين البشريين، وهي تجربة تُظهر كيف يمكن للتكنولوجيا والإنسان أن يعملا معاً بشكل متكامل.
رغم الإيجابيات التي يُقدمها الذكاء الاصطناعي للبشرية اليوم عمومًا، إلا أن الاعتماد المفرط عليه يثير مخاوف متعددة، وهو ما أوضحته إحدى الدراسات الأوروبية الحديثة، التي كشفت أن نحو 45 % من الجمهور يشعرون بعدم الارتباط العاطفي بالمحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي، ويفضلون النصوص المكتوبة بأيدٍ بشرية.
وأما في محيطنا العربي، فإن اللغة العربية تُمثل تحدياً حقيقياً لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لعدم استيعابها غزارة لغتنا، وتراكيبها الغنية، فضلًا عن المعاني المتعددة للكلمات، وهذه النقطة تجعل الاعتماد الكلي عليه في إنتاج المحتوى العربي أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
لكن هل تعلمون ما الأسوأ والأخطر على المسار المهني، عند التطرق لهذا الموضوع؟ هو الانغماس الكُلي الذي يؤدي إلى تراجع مهارات الكتابة والتحرير لدى الأجيال القادمة من الصحفيين، بل حتى من الجيل الحالي، الذين أصبح بعضهم رهينة لعالم تُدار فيه النصوص بجمل جاهزة وصياغات آلية، ما يعني باختصار، افتقاد "البصمة الحيوية الكتابية"، وهو أهم ما يملكه من امتهن مهنة الكتابة بمختلف تصنيفاتها.
ما يميز الإنسان عن الآلة ليس القدرة على جمع المعلومات أو تحليلها فقط، بل القدرة على رواية القصة بلمسة إنسانية، فالصحفي المبدع هو الذي يبحث عن زوايا خفية في كل قصة، يصوغها بلغته الفريدة، ويُبقي القارئ متشوقاً للنهاية.
النقاشات المهنية مع الزملاء والزميلات في أكثر من حوار، أوصلتنا إلى نتيجة مفادها، افتقاد عدد غير قليل من الصحافيين أو صنّاع المحتوى لما يُعرف بـ "هندسة التلقيم"، وهي مهارة حاسمة تُبرز دور الإنسان في توجيه الآلة لتحقيق نتائج دقيقة وذات مغزى، وتقوم على صياغة مدخلات واضحة ومحددة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، مما يضمن مخرجات تتماشى مع التوجه التحريري والإبداعي، فعلى سبيل المثال، عند إدخال بيانات إخبارية مع سياق تحليلي مُحدد، يمكن للنظام أن يُنتج نصوصاً ذات جودة، لكن يظل التدخل البشري ضرورياً لتحسين اللمسة الإبداعية وضمان العمق الثقافي، وهي عملية تؤكد أن الذكاء الاصطناعي، رغم قدراته، لا يمكن أن يحل محل الكاتب المتمرس، بل يحتاج إلى توجيه واعٍ يُبرز دوره كأداة داعمة للإبداع البشري.
وهنا أقترح على المؤسسات الصحافية والإعلامية، أو حتى شركات العلاقات العامة والاتصال، والمتخصصة في كافة أشكال إنتاج المحتوى، إنشاء "دليل أسلوب كتابة" في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد الأفكار الأولية وتحليل البيانات، مع توضيح آليات الحفاظ على الأصالة والهوية الثقافية للنصوص، خصوصاً في اللغة العربية.
في خاتمة هذا الطرح، أوصي زملائي، خاصة الصحفيين وكتّاب المحتوى الشباب، أنه مهما تطورت التكنولوجيا، فإنها لن تتمكن من كتابة نص يحمل دفء المشاعر، أو عمق التجربة الإنسانية، لذلك تمسكوا بالروح التي تجعل من الصحافة والمحتوى أكثر من مجرد مهنة.. دمتم بخير.