الانتظار؛ شعور عميق بعدم اليقين، يدفع الإنسان إلى اضطراب المشاعر، فلا رجاء ينفع ولا يأس ينهي الأمر، وانتظار الموت هو موت كل لحظة حتى يصل فيها الإنسان إلى طلب الموت نفسه الذي يجد فيه الراحة ونهاية الانتظار.. كل منطقة رمادية توحي بعدم اليقين وتصنع شعورًا عميقًا بعد الاستقرار، وهو شعور مدمر من الداخل يفقد الإنسان توازنه..
قد يكون السؤال: هل هناك أمر أصعب من الموت؟ علما أن القرآن الكريم وصف الموت بالمصيبة "فأصابتكم مصيبة الموت" (المائدة: 106) كما أنه ربط الموت بالحياة "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا" (الملك: 2)، وحتى في الآية الأولى التي وصف الله بها الموت بالمصيبة ربطها بالضرب في الأرض والسعي فيها، وتقديم الموت على الحياة يعني أنه حقيقة كبرى لا مفر منها، فالموت الذي يفر منه الناس سوف يلاقيهم حتما. لكن مع علمنا بحقيقة الموت إلا أننا نحاول تناسيه كونه جزءا من "عالم الغيب" والإنسان مجبول على التمسك بـ"عالم الشهادة". البشر فطروا على الإيمان بما يرونه ويعيشونه أكثر من الغيب الغامض الذي لا يعرفونه على وجه الدقة وإن كان البعض يؤمن بما سيحدث بعد الموت ويعمل من أجله. لكن رغم حقيقة الموت الأكيدة إلا أن غموضه وما يمثله من فقد وغياب جعل البشر في حيرة منذ أن بدأت حياتهم على وجه الأرض. أغلب الطقوس والشعائر وما صاحبها من عمارة ارتبطت بالموت وثقافته ويمكن أن نقول إن "عمارة الموت" كانت هي المهيمنة على أكثر الحضارات القديمة (الأهرامات في الحضارة الفرعونية وما بين النهرين والأنباط وأغلب الحضارات القديمة). ما هو غامض مثير للخيال فكرة "الخلود" بعد الموت الغامض مدهشة ومولّدة للأفكار وكانت مصدرا ملهما للإبداع. لكن كل هذا الزخم الحضاري الذي ارتبط بحقيقة الموت لم ينفِ في يوم أنه حقيقة مرعبة.
يقول لنا التاريخ إن ثقافة وعمارة الموت كانت نتيجة للخوف المرعب من الحقيقة التي لا مفر منها. كانوا يذكرون "هادم اللذات" ويريدون أن يتغلبوا عليه، ولا يوجد طريقة يمكن أن تتغلب على الموت. الخوف الحقيقي كان من انتظار الموت، إنها المرحلة الغامضة الصعبة التي تكثر فيها الأسئلة التي لا يستطيع أحد أن يجيب عنها لذلك طوروا عمارتهم لتحقيق الخلود بعد الموت وهو العالم الغامض الذي لا يعرف عنه أحد شيء، فقلق "ما قبل" هو الذي صنع كل حضارة "ما بعد". إنها الحقيقة التي نعيشها كل لحظة ولا نملك أن نغيرها.. لعل السؤال الذي طرحه الفلاسفة ولم يكن له إجابة، كعادة كل الأسئلة الفلسفية، هو: ما الأمر الذي يمكن أن يكون أصعب من الموت؟ بالنسبة لي وجدت أن لكل منا إجابته الخاصة، فلا نستطيع أن نتفق على إجابة واحدة، لكن سوف أذكر بعض المواقف التي مررت بها ووجدت أنها أصعب من الموت.
سألني أحد الزملاء قبل عدة أيام عن وضعي الصحي، وقد كنت أجريت عملية جراحية بسيطة، فقلت له إنني أثناء وبعد العملية لم أشعر بالقلق الذي كنت أشعر به قبل العملية، وذكرت له أن البشر عادة ما يشعرون بالقلق ويعيشون صعوبات كبيرة قبل وقوع المصائب لكنهم يتكيفون بسرعة، لذلك قال رسولنا الكريم "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، وإلا بعد ذلك فإن الإنسان يتكيف ويتأقلم مع كل المصائب التي تمر به.. قبل حوالي سبعة عشر عاما فقدت أحد أخوتي في عملية قلب مفتوح، وكان الفقد عظيما، لكن عندما سئلت عن شعوري حول ذلك الفقد قلت إن "انتظار الموت أصعب من الموت"، وقلت إن الساعات التي أعقبت العملية وبشّرنا فيها الجراح بنجاحها ثم الانتكاسة التي حدثت حتى توفاه الله كانت أصعب ساعات مررت بها في حياتي حتى ذلك الوقت. انتظار الموت أمر صعب جدا يجعل الإنسان معلقا بين الرجاء واليأس، يبحث عن نافذة أمل، حتى لو كانت صغيرة.
لا يمكن أن أتجاوز الشهور الثمانية التي مرت بها ابنتي مروة وهي مصابة بالسرطان، لم تكن شهورا عادية في حياتي بل كنت أصحو كل يوم فزعا خوفا من فقدها الذي كنت أعرف أنه سيحدث لا محالة إلا بمعجزة من الله. انتظار الفقد مؤلم، وربما أكثر إيلاما من الفقد نفسه.. قلت للزميل: علمتني الحياة أنه لا يوجد في الحياة أصعب من انتظار الشيء كي يحدث، حتى في الحياة العملية وفي الدراسة، انتظار النتائج أصعب من النتيجة حتى لو كانت غير مرضية. علاقتي بابنتي أثناء رحلة الموت مليئة بالخوف والقلق والترقب، يصعد فيها الرجاء أحيانا، ويهبط بي اليأس أحيانا أخرى. ورغم علمي وإيماني أن الموت قضاء وكتاب إلى أجل مسمى إلا أن علمي بقرب القضاء وانتظاري له كان مروعا. لا أستطيع أن أقول إن ألم الفقد كان أخف من انتظاره؛ لكن بعد مرور شهرين من وفاة ابنتي لم أستطع أن أتغافل عن فقدها لحظة واحدة، لكنني أعرف الآن أنها ذهبت إلى خالقها ولن تعود إلى هذه الحياة. الموت يرسم لنا خطوطا واضحة وفاصلة، فمهما كان ألمي الآن فهو لا يضاهي ألمي وقلقي المستمر قبل الفقد.
الانتظار؛ شعور عميق بعدم اليقين، يدفع الإنسان إلى اضطراب المشاعر، فلا رجاء ينفع ولا يأس ينهي الأمر.. وانتظار الموت هو موت كل لحظة حتى يصل فيها الإنسان إلى طلب الموت نفسه الذي يجد فيه الراحة ونهاية الانتظار.. كل منطقة رمادية توحي بعدم اليقين وتصنع شعورا عميقا بعد الاستقرار، وهو شعور مدمر من الداخل يفقد الإنسان توازنه.. لا أستطيع أن أتجاوز ساعات الشرود الطويلة أثناء مرض ابنتي التي كانت تجعلني في كثير من الأحيان حاضرا جسدا وغائبا روحا وعقلا.. لذلك فقد وصلت إلى إيمان كامل أن الانتظار أكثر إيلاما مما ستؤول إليه نتيجة الانتظار.