تحويل الشعاب المرجانية إلى مصدر إلهام لنمو اقتصادي مستدام يمكن أن يُظهر للعالم كيف يمكن للممارسات البيئية المسؤولة أن تؤدي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية طويلة الأجل، وهو ما تسعى المملكة لترسيخه على المستويين المحلي والعالمي..

تُمثل الشعاب المرجانية أحد أعظم كنوز المحيطات وأبرز مكونات النظام البيئي البحري، ومع ذلك، تواجه هذه الكائنات الدقيقة تهديدات كبيرة؛ إذ فقد العالم أكثر من ثلثي الشعاب المرجانية منذ عام 1950 بسبب الأنشطة البشرية، بما في ذلك التغير المناخي، والتلوث، والصيد الجائر، وعلاوة على ذلك، تتعرض 44% من الأنواع المرتبطة ببناء الشعاب المرجانية لخطر الانقراض، ما يجعل حماية هذه الأنظمة البيئية أولوية عالمية.

السعودية، بفضل موقعها الجغرافي الاستثنائي على البحر الأحمر، أدركت مبكرًا أهمية هذا التحدي، وجعلت حماية البيئة الطبيعية، بما في ذلك الشعاب المرجانية، محورًا رئيسيًا في رؤيتها الطموحة 2030. وبرزت جهودها من خلال المبادرات العلمية والبحثية التي تقودها جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، ويمكن الاستشهاد هنا بتأسيسها للمنصة العالمية لتسريع البحث والتطوير للشعاب المرجانية التي حظيت بتأييد قادة مجموعة العشرين في نوفمبر 2020.

الجهود المُستدامة التي بذلتها المملكة قادتها لتولي رئاسة الدورة 14 للمبادرة العالمية للشعاب المرجانية (ICRI) كاعتراف دولي بالخطوات الملموسة التي اتخذتها للحفاظ على هذه الكائنات البيئية الفريدة، وتأسست هذه المبادرة التي تضم 102 عضو، بينهم 45 دولة تستضيف 75% من الشعاب المرجانية في العالم، لتنسيق الجهود العالمية في مواجهة التحديات البيئية المشتركة.

يمكن القول: إن هذا الإنجاز يعكس الثقة الدولية بقدرة المملكة على الريادة في جهود حماية الشعاب المرجانية عالميًا، ويُمثل توليها رئاسة المبادرة، خطوة نحو تحقيق رؤية شاملة لإدارة هذه النظم البيئية البحرية بطريقة مستدامة، فيما يأتي هذا الدور الجديد في وقت أطلقت فيه المملكة "الاستراتيجية الوطنية لاستدامة البحر الأحمر"، التي أعلن عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بهدف حماية النظم البيئية الفريدة للبحر الأحمر وإنشاء اقتصاد أزرق مستدام يعتمد على استغلال الموارد البحرية بطريقة متوازنة.

الشعاب المرجانية ليست فقط نظما بيئية تدعم التنوع البيولوجي، بل تمثل ركيزة أساسية لما يُعرف بـ"الاقتصاد الأزرق"، وهو نموذج اقتصادي يعتمد على استدامة الموارد البحرية لتحقيق التنمية الاقتصادية، وهي أيضًا مركز للأنشطة الاقتصادية المختلفة، إذ تدعم السياحة البيئية التي تجذب ملايين الزوار سنويًا، وتوفر موائل أساسية للصيد المستدام، وتعمل كحواجز طبيعية تحمي السواحل من العواصف والتآكل.

تُقدر القيمة الاقتصادية للشعاب المرجانية عالميًا بحوالي 9.9 تريليونات دولار سنويًا من السلع والخدمات البيئية، وعلى مستوى المملكة، يمكن أن يؤدي الحفاظ على الشعاب المرجانية في البحر الأحمر إلى تحفيز الاقتصاد المحلي من خلال تعزيز السياحة البيئية المستدامة، التي تعتمد على مناطق غنية بالشعاب مثل منطقة البحر الأحمر، فضلًا عن الاستثمار في الابتكار العلمي والتقني للحفاظ على هذه النظم بقيادة كاوست، مما يُعزز من مكانتها كمركز عالمي للأبحاث البحرية، ويخلق فرص عمل جديدة ويجذب الاستثمارات الدولية.

تحويل الشعاب المرجانية إلى مصدر إلهام لنمو اقتصادي مستدام يمكن أن يُظهر للعالم كيف يمكن للممارسات البيئية المسؤولة أن تؤدي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية طويلة الأجل، وهو ما تسعى المملكة لترسيخه على المستويين المحلي والعالمي.

وفي إطار رئاستها للمبادرة، وضعت السعودية جهودًا دولية لإعداد خطة عمل طموحة للفترة 2025-2027، تتضمن: توسيع العضوية لتشمل الدول التي تضم 90% من الشعاب المرجانية عالميًا، ودمج إدارة الشعاب المرجانية في السياسات العالمية وتعزيز الإستراتيجيات الوطنية للتنوع البيولوجي، إضافة إلى تحسين المراقبة البيئية باستخدام تقنيات مبتكرة مثل الذكاء الاصطناعي لتحليل حالة الشعاب المرجانية، فضلًا عن إطلاق مبادرات توعية دولية، مثل مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات، لزيادة الوعي العالمي بأهمية الشعاب المرجانية، وتعزيز التعاون الإقليمي مع الدول المحيطة بالبحر الأحمر وجنوب آسيا وشرق أفريقيا.

والجميل في الأمر أن سنشهد تحت قيادة السعودية، إطلاق التقرير العالمي المرتقب (حالة الشعاب المرجانية في العالم: 2025)، الذي سيقدم رؤى علمية تدعم استراتيجيات الحفاظ على الشعاب المرجانية وترميمها.

في الختام، يأتي الدور القيادي للمملكة في هذا المجال كجزء من مساعيها لتحقيق التوازن بين التنمية المستدامة وحماية البيئة، وما تقوم به اليوم في حماية الشعاب المرجانية يعكس رؤية بعيدة المدى نحو مستقبل أخضر ومزدهر للعالم بأسره.. دمتم بخير.