لعل أهم سيناريوهات قدوم الترمبية هو اتخاذ الديمقراطية الأميركية قرارًا بتغيير الشكل التقليدي للقوة والنفوذ الأميركي، كاستجابة طبيعية لارتباك النظام العالمي وغياب القطبية، حيث تسعى أميركا إلى خلقه من جديد عبر تعيين الصين فقط -وليس غيرها- كمنافس دولي لأميركا، وهذا ما ستدفع به الترمبية بقوة خلال الأربع السنوات القادمة..

اليوم يعود الى العالم الرئيس الأكثر إثارة للجدل دونالد ترمب وهو أول رئيس جمهوري يفوز بالتصويت الشعبي منذ عشرين عاما، وأول رئيس يخدم لفترتين غير متتالية منذ مئة عام، والحقيقة فإن الوضع الدولي يقف بقوة خلف عودة الترمبية، فالعالم من حيث النفوذ يعيش حالة سياسية سائلة الى حد كبير، فالحرب الباردة كانت بمثابة الغراء الذي يساهم في إلصاق الايديولوجيات بالنظم السياسية، ولكن بعد سقوط القطبية وغياب الاتحاد السوفيتي شهد العلم عملية انحسار كبيرة لديناميكيات الايدلوجيات التي كانت تعمل على تثبيت العالم.

البحث عن تفسيرات دقيقة للترمبية كنموذج صارخ للشعبوية السياسية يتطلب فهم الواقع الدولي وبحث العالم عن الشكل المناسب لنظامه، فالعالم أمام خيارت صعبة؛ فهو إما ان يوثق وحدة القطب الأميركي او يعلن ولادة أقطاب منافسة او يسمح لمواجهة شرسة عبر مواجهات شعبوية بين النماذج السياسية في العالم من خلال استخدام الحداثة والتكنولوجيا كأدوات تحقق السرعة في الترويج للمبادئ والمفاهيم.

الترمبية التي احدثت المفاجأة وقلبت الموازين بأدوات سياسية خرجت من مسارها التقليدي تعيد طرح السؤال الأكبر من جديد حول عودة مكونات الترمبية التي اثبتت خلال فترتها الأولى أنها تحمل في مكوناتها الشعبوية اليمينية والمحافظة الوطنية والقومية الجديدة، بجانب إثباتها انها كانت تعبير عن معتقدات تبتعد عن الليبرالية، لذلك فإن الترمبية التي تنطلق في العالم اليوم ستتحرك سياسيا في إطار مغلق من الخوف والاستياء المتكرر وخاصة في الثلاثة الأشهر الأولى.

الوجه الذي لن يتغير في الترمبية هو الوجه الأكثر خوفا على مستقبل أميركا، وسيكون من الطبيعي ان ينعكس هذا الخوف على العالم اجمع وخاصة في محيط الشرق الأوسط؛ المنطقة التي يخاف عليها ومنها ترمب، وهذا سينعكس على التكوين الكلي للحزب الجمهوري والإدارة الأميركية التي سوف تتعامل مع مستويات غير مستقرة من الخوف والقلق على أميركا من خلال الطرح السياسي للترمبية.

الترمبية في وصفها هي نموذج سياسي من منتجات الديمقراطية الأميركية خلال ثلاثة قرون مضت، ولكن الفارق في تفسيراتها هو توقيتها وتأثيرها الدولي؛ خاصة انها تأتي في مرحلة يفتقد فيها النظام الدولي الاستقرار والثبات، والواقع انه سواء اتفق العالم مع الترمبية او عارضها فإن ذلك لا يمكن ان يلغي جذور تفردها التي ساهمت في بروزها، فالباحثون والمفكرون حددوا اهم المسارات التي بنيت عليها الترمبية -التي انقلها هنا كما قرأتها- فهي أربعة مسارات؛ أولها الشهرة، حيث شخصية ترمب المشهورة كرئيس تنفيذي وصانع قرار صارم وكانت شهرته بالفعل معززة ومناسبة تماما لصورته السياسية المرغوبة.. ثانياً النزعة الوطنية التي تعبر عنها الترمبية بملاحقة المهاجرين وضرورة اخراجهم من الحدود الوطنية.. ثالثا الدخلاء او المناهضون، وهنا تعبر الترمبية عن قدرتها على معارضة هيكل السلطة القائم وهذا ما استخدمه ترمب خلال فترتيه التي خاض فيهما الانتخابات.. رابعا الشعبوية حيث يجسد ترمب نوع من الشعبوية الأميركية المكونة من مزيج من الوطنية العلنية والقومية الاقتصادية، إلى جانب التزام غامض تجاه الطبقة الوسطى والسياسة الخارجية.

الترمبية في مضمونها هي شخصية سياسية متفردة في سلوكها من حيث الاندفاع وعدم القدرة على التنبؤ بسلوكها، وهذا ما يوفر عدم الراحة للعالم وخاصة حلفاء أميركا، فعودة الترمبية يمكنها ان توسع الفجوة في مناطق مختلفة من العالم وخاصة في شرق آسيا وكذلك الشرق الأوسط بالإضافة الى شمال أميركا وشمال أوروبا، ولعل اهم السيناريوهات التي ينتظرها العالم كما تحدث عنها الكثير من الباحثين هي أن اندفاع الترمبية العائدة الى البيت الابيض من جديد يمكنها ان تفرض سياسات غير متماسكة أو محفوفة بالمخاطر.

السياسات الأميركية الخارجبة بحضور الترمبية وتجاه شركائها الاستراتيجيين سوف تكون ممزوجة ومتداخلة مع شخصية ترمب بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية، وهذا ما يتطلب قراءة واضحة لتلك القرارات التي سوف تملأ العالم ضجيجا خلال المئة يوم من عودة الترمبية قبل ان تعود الى قواعد النظام والبيروقراطية الأميركية التي تعتبر أكبر آلة يمكنها ان توقف الاندفاع في الترمبية.

الترمبية نموذج طبيعي من منتجات الديمقراطية الأميركية، ولابد للعالم من الترحيب بها، وهي ليست نموذجا سلبيا في كل مساراتها؛ ولكنها إثبات دقيق على قدرة الديمقراطية الأميركية التكيف مع نظامها السياسي بكل أبعاده سواء المجال الانتخابي او المجال الرئاسي، ولعل أهم سيناريوهات قدوم الترمبية هو اتخاذ الديمقراطية الأميركية قرارا بتغيير الشكل التقليدي للقوة والنفوذ الأميركي، كاستجابة طبيعية لارتباك النظام العالمي وغياب القطبية، حيث تسعى أميركا الى خلقه من جديد عبر تعيين الصين فقط -وليس غيرها- كمنافس دولي لأميركا، وهذا ما ستدفع به الترمبية بقوة خلال الأربع السنوات القادمة.