في عالمٍ يفيض بالمعلومات، حيث يختلط الغث بالسمين، يبرز أمامنا تحدٍّ وجودي خطير يمكن تشبيهه بالطاعون الفكري، يتمثل في التدفق غير المنضبط للمحتوى الضحل الذي يتسرب إلى الوعي الجمعي كالسم الزاحف. هذا المحتوى، بمادته السطحية وسرده التافه والتنظير الخاوي بدون تأهيل، لا يكتفي بمجرد ملء الفراغ، بل يعيد تشكيل السردية الثقافية والفكرية، فيقوّض الجوانب المضيئة في هويتنا، ويزرع بذور الفراغ المجتمعي الذي يهدد بتفكيك النسيج الثقافي الراسخ.

إن هذا الطاعون الفكري لا يأتي على هيئة صراعات مباشرة أو هجمات علنية، بل يتسلل ببطء، متخفياً في هيئة التسلية أو إعادة تدوير نفايات فكرية متردية بتحديث عصري.

المحتوى الضحل لا يعادي الثقافة التقليدية علنًا، بل يعمل كالسوسة التي تنخر في أساساتها، يُضعف أركانها، ويُهيئ المجال لزراعة سرديات جديدة مغايرة تمامًا لما عهدناه من تماسكٍ مجتمعي وفكري.

هذا التدفق الهائل للمحتوى الضحل يخلق فراغًا فكريًا جماعيًا، حيث تصبح العقول مهيأة لتقبل أيديولوجيات هجينة تتعارض مع ثوابت الهوية الثقافية. هنا يكمن الخطر الحقيقي: فالمجتمع الذي يُفقد ثقافته الأصيلة يفقد بوصلته الفكرية، ويصبح تربة خصبة لاستيراد قيم ومعايير غريبة، تفكك ما كان يومًا رصيدًا من القيم الراسخة والرصينة.

التحصين الفكري ليس دعوة للانغلاق أو القطيعة مع الثقافات الأخرى؛ بل هو فن التوازن الدقيق، حيث نستشعر حدودنا الفكرية دون أن نذوب في الآخر على حساب ماهيتنا. إن التحدي ليس في الانفتاح، وإنما في كيفية الانفتاح؛ أن نبقى منفتحين على التطور والحداثة، لكن دون أن نكون نسخة ممسوخة من ثقافات لا تمت لجوهرنا بصلة.

إن العقل الواعي والمحصن فكريًا يدرك أن الانجراف خلف الموجات الثقافية الهجينة دون فحصٍ وتمحيصٍ هو أشبه بالتخلي عن البوصلة وسط عاصفة عاتية. هذا العقل لا يرفض الجديد لمجرد رفضه، لكنه يحتكم إلى منظومة قيمية متجذرة، تختبر الأفكار وتحتويها ضمن إطارٍ يحفظ الهوية دون أن يعادي التطور.

إننا، وإن بلغنا مراتب متقدمة من التطور الفكري والتقني، يجب ألا نسمح لهذا التقدم بأن يصبح بديلًا عن هويتنا وثقافتنا، بل جزءًا مكملاً لها. التطور الحقيقي هو ذلك الذي يضيف إلى الإرث الثقافي دون أن يمحو ملامحه. فلا تناقض بين الحفاظ على الأصالة والسير نحو المستقبل؛ بل إن الحفاظ على القيم الثقافية والعادات الأصيلة هو ما يجعلنا أكثر قدرة على التعامل مع تحديات العصر بوعيٍ وثقة.

إن الهوية الثقافية ليست عبئًا يُقيد حركتنا، بل هي مرساةٌ تمنعنا من الانجراف نحو هاوية الفراغ الفكري. إن الحفاظ على هذه الهوية، مع دمجها الواعي بعناصر التطور، هو ما يجعل المجتمع قادرًا على تحقيق التوازن بين الثابت والمتغير، بين الأصالة والمعاصرة.

إن التحصين الفكري ضرورة وجودية في زمن أصبحت فيه المعلومة أداة للهيمنة الثقافية. نحن بحاجةٍ إلى وعيٍ جمعي يدرك أهمية الحفاظ على الهوية دون الانغلاق، وإلى عقولٍ قادرة على التمييز بين التطور البنّاء والانجراف اللامحسوب المدمر.

التحصين الفكري ليس عائقًا أمام التقدم، بل هو الجدار الذي يحفظ للمجتمع تماسكه وفرادته في وجه طوفان التغيرات.

لذلك، فإن مهمتنا اليوم هي بناء حصوننا الفكرية بوعيٍ ورؤيةٍ عميقة، حيث نحمي أنفسنا من التلاشي في الآخر، ونبقى أوفياء لهويتنا، ثقافتنا، وقيمنا، ونحن نخوض معترك التطور..

وللحديث بقية.