ترمب وغيره ممن يحاولون فرض تصورات جديدة على القضية الفلسطينية عليهم أن يستوعبوا أن المملكة لن تُغير مواقفها، بل أصبحت أكثر وضوحًا وأكثر تأثيرًا؛ لأن معادلتها التي لم تتبدل، تستند إلى أنه لا حل دون دولة فلسطينية مستقلة، ولا تنازل عن الحقوق المشروعة، ولا سلام دون إنهاء الاحتلال..
منذ إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، عن فكرة خطته لتهجير سكان غزة وتفريغها من أهلها وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" -كما أحب تسميتها- جاء الرد السعودي من أعلى مستوى هرمي سياسي حازمًا وسريعًا، مستندًا إلى عقود من الثبات على موقف المملكة من القضية الفلسطينية، والذي لم يكن يومًا موضع مساومة أو خضوع للضغوط أو المزايدات السياسية، فالسعودية باعتبارها العمق العربي والإسلامي، لم ولن تتاجر بقضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين. هذا الموقف ليس وليد اللحظة، بل يمتد في جذوره إلى المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن –طيب الله ثراه- الذي شدد في لقاءاته الدولية على أن الحقوق الفلسطينية خطٌ أحمر، مرورًا بمواقف الملك فيصل التي رسخت السعودية كأحد أبرز المدافعين عن فلسطين، وليس انتهاءً بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اللذين يعيدان تأكيد الثوابت ذاتها، مع وضوح أشد في الخطاب، وصرامة أكبر في مواجهة المزايدات الدولية. جاء تصريح ترمب بشأن تهجير سكان غزة ضمن سلسلة من الطروحات التي تتعامل مع القضية الفلسطينية كملف تفاوضي يمكن تعديله وفق المصالح السياسية الدولية، وهو طرح لا يلقى أي قبول في الرياض، لذلك لم يمضِ وقت طويل حتى أتى الرد السعودي سريعًا، بدايةً من بيان وزارة الخارجية، وصولًا إلى خطب ومواقف مباشرة وصريحة تصدرها الأمير محمد بن سلمان. في خطابه خلال افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى (سبتمبر 2024)، أكد ولي العهد بجلاء أن لا علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال دون قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مشددًا على أن القضية الفلسطينية ليست ملفًا خاضعًا للضغوط أو المقايضات السياسية.
كما أعاد الأمير محمد التأكيد على هذا الموقف في القمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض (نوفمبر 2024)، عندما دعا المجتمع الدولي إلى الاعتراف بفلسطين كدولة ذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وهي خطوة أغضبت بعض الأطراف الدولية، إلا أنها تعكس موقف المملكة السياسي المتقدم في هذا الملف.
ما يميز موقفنا السياسي هنا في الرياض، هو الانتقال من الخطاب الدبلوماسي التقليدي إلى خطاب سياسي أكثر حدة ووضوحًا في مواجهة المشاريع التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، ففي السابق، كانت المملكة تُركز على المواقف الدبلوماسية المتزنة، لكنها اليوم لا تتردد في المواجهة المباشرة عندما يتعلق الأمر بمصير فلسطين.
ولعل تصريحات الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي الأسبق إلى أميركا وبريطانيا الأسبق، مثاٌل واضح على هذا التصعيد المدروس، وهو ما عبر عنه على نحو صريح في مُقابلته مع مذيعة CNN، كريستيان أمانبور، نهاية الأسبوع الماضي، وتعليقه حول ما قاله الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بشأن خطته في غزة، مشيرًا إلى أن هذا أتى "من الفراغ"، ومؤكدًا في الوقت نفسه على أنه يستند "على الموقف الإسرائيلي بشأن التطهير العرقي".
هذا التحول في الخطاب يعكس إدراك السعودية لحجم التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، وضرورة تبني لهجة أقوى في مواجهة محاولات إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط على حساب حقوق الفلسطينيين وما لا يدركه بعض الساسة في الغرب عمومًا، هو أن السعودية ليست دولة مؤثرة في المعادلة الإقليمية فقط، بل هي حجر الأساس في التوازن السياسي العربي والإسلامي، ومن هذا المنطلق، فإن أي محاولة لإعادة صياغة معادلة الشرق الأوسط، دون مراعاة لموقفها، هي محاولة محكوم عليها بالفشل.
في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، عززت الرياض موقعها كلاعب محوري في الملفات الكبرى، ليس على المستوى العربي فحسب، بل في الدوائر السياسية الدولية، وما نشهده اليوم هو تحولها إلى صوت صلب ومؤثر، لا يرضخ للضغوط، ولا يقبل سياسات فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين.
ترمب وغيره ممن يحاولون فرض تصورات جديدة على القضية الفلسطينية عليهم أن يستوعبوا أن المملكة لن تُغير مواقفها، بل أصبحت أكثر وضوحًا وأكثر تأثيرًا؛ لأن معادلتها التي لم تتبدل، تستند إلى "أنه لا حل دون دولة فلسطينية مستقلة، ولا تنازل عن الحقوق المشروعة، ولا سلام دون إنهاء الاحتلال"، ولا يتصور المشككون الأفّاكين أن هذه شعارات برّاقة للاستهلاك المحلي والإقليمي، بل حقائق ثابتة على الأرض، والسياسة السعودية كانت –وما تزال– واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي: أن فلسطين ليست ورقة تفاوض، بل قضية مركزية لن تتغير، مهما تغيرت السياسات الدولية.. دمتم بخير.