لم تعد المعجزة اليوم في كسر قوانين الطبيعة أو التحليق في السماء أو المشي على الماء، بل في أن تحافظ على إنسانيتك وسط هذا الكم الهائل من إغراءات الزيف والخداع التي تحاصرنا من كل حدب وصوب.. فأعظم تحدٍّ اليوم هو أن تبقى إنسانًا، لا يلومك أحد على تمسكك بإنسانيتك، ولا على نزاهتك، ولا على صدقك وعدلك وتسامحك، وترفض كل المغريات التي تحاول انتزاعها منك.
أن تكون إنسانًا لا يعني مجرد الانتماء إلى البشرية، بل أن تحمل قيمها في سلوكك اليومي، فهي ليست شعارًا يُرفع، بل اختبارٌ مستمر في كل موقف تواجهه.. فأنت لا تُعرَف بما تدّعيه، بل بما تفعله.. والمعجزة الحقيقية ليست في القدرة على الكذب، بل في اختيار الصدق، كأن تملك فرصة للغش لكنك تفضل النزاهة، أو أن تملك القوة لكنك تفضل الرحمة، أو أن تأتيك فرصة للانتقام لكنك تعفو، أو أن تعيش بين الناس دون أن تخدع، أو تغتاب، أو تسيء لأحد.
هذه هي اختبارات الإنسانية الحقيقية؛ فالعالم اليوم لا يفتقر إلى العقول المفكرة والمنظِّرة، بقدر افتقاره إلى الضمائر الحية، حيث لم يعد التحدي أن تتفوق على الآخرين بذكائك أو قوتك أو مالك، بل في أن تحافظ على إنسانيتك.. وتؤمن بأن أشرس المعارك ليست تلك التي تخوضها ضد الآخرين، بل تلك التي تدور داخلك كل يوم.. وأن الإنسان لا يهزمه خصمه، بقدر ما تهزمه المساومات التي يعقدها مع نفسه.
فالامتناع عن الخطأ لا يُعد فضيلة إلا حين يكون متاحًا ومغريًا.. والأخلاق ليست قيودًا تُفرض، بل إيمانٌ يجري في دمك، يردع ذاتك كلما أمرتك بالسوء، وما يبقى منك في النهاية ليس ما جمعته، بل ما رفضت أن تخسره من قيمك ومبادئك.. وإنسانيتك، ومن الطبيعي في خضم هذا الصراع أن تشعر بالشك، ويهتز إيمانك عندما ترى حجم الدسائس والوقت المهدر لحياكتها، وأن تتساءل: لماذا كل هذا الشر؟ ولماذا كل هذا الأذى؟ ومن أين يأتي كل هذا السواد الذي يحجب القلوب عن الحب والرحمة والمعروف؟
إن الاختبار الحقيقي ليس في قدرتك على معرفة الصواب، بل في استعدادك لاتباعه.. فأنت لا تُقاس بما تستطيع فعله، بل بما تختار فعله، أن تختار الوفاء في عالمٍ يعج بالخيانة، أن تبقى نزيهًا في بيئةٍ تغري بالفساد، أن تكون صوت العقل في مواجهة الجهل، أن تتمسك بالحق رغم ثمنه الباهظ.. أن تفعل كل ذلك، فقط لتقف في آخر النهار أمام المرآة وترى إنسانًا تفخر به!